آلمني جدا خبر التفجير في مسجد الإيمان بدمشق الذي راح ضحيته الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي وعدد من طلابه بشكل مثير للاشمئزاز مهما كان هدف وتوجه الذي قام بعملية التفجير هذه، وآلمني أكثر من ذلك وأشد ابتهاج البعض بمقتل الشيخ البوطي بهذه الطريقة، وعلى وجه الخصوص أولئك الذين ينسبون أنفسهم للعلم، فمنهم من شتم وكال التهم ومنهم من لم يجز حتى الصلاة على الشيخ رحمه الله.
مثلي مثل غيري كنت طوال العامين الماضيين أستغرب مواقف الرجل وتأييده للنظام السوري بهذا الشكل، وانتقدت ما وصلني من خطبه وآرائه في هذا الباب، ولكنني كنت أستغرب أكثر هذه الجرأة لدى الكثير من المستعجلين بالحكم على الرجل بشخصه بدلا من الوقوف عند نقد آرائه الحقيقة بالنقد، وكنت أتخوف أن تقودنا هذه المهاترات الشخصية إلى ما أفضى إليه الأمر من مقتل الشيخ رحمه الله بهذه الطريقة المؤسفة.
إن مشكلتنا في العالم العربي ما زالت هي ذات المشكلة منذ بدأت السياسة تشق طريقها إلينا في النصف الثاني من عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه وما تلاه من عهود، وهي عدم القدرة على الفصل بين الاختلاف في الرأي وبين اتهام صاحب الرأي، وبعد أن تقع الفأس في الرأس كما يقال نعود للأسف والتأسي على ما تم. كانت نتيجة هذه المشكلة في ذلك العهد "الراشد" أن قام بعض "الثوار" الشباب بقتل ذي النورين الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم "ما ضر عثمان ما فعل بعد هذا"، وكانت نتيجتها أيضا أن قام "أشقى أهل النار من أمة محمد" عبدالرحمن بن ملجم بقتل علي بن أبي طالب وهو المبشر بالجنة رضي الله عنه، وكان من نتيجتها أن انقسمت الأمة منذ تلك الأيام وما زالت حتى يومنا هذا إلى شيعة وسنة وخوارج مارقين.
حين نقول إنها فتنة فأعظم ما فيها بعد هذه الدماء التي أريقت هو تركنا لنقاش الرأي وانتقالنا للتجريح في صاحبه، وهو ما جعل البعض منا يختار من فتاواه ويتصيد ما يدين البوطي ويترك منها ما يكمل لنا الصورة ويرينا إياها بعين الموضوعية، ليكون نقدنا له بعيدا عن الشخصنة مهما اختلفنا معها، فهو كما أفتى ضد الثورة كان له حراك سياسي سلمي ضد بعض التوجهات التي تبنتها الحكومة، لكنها لم تكن في ذات القوة التي واجه بها الثورة خلال العامين الماضيين.
لا أريد هنا في هذا المقال أن أحلل وأفند فتاوى الشيخ البوطي ـ رحمه الله ـ فهو عالم شهد له الكثير بالعلم والمعرفة، وأنا لا أبلغ من العلم ما أستطيع معه أن أقف مع فتاواه موقفا تحليليا دقيقا، ولكنني أريد أن أقف مع موضوعية الرأي والفصل بين الرأي وبين صاحبه، وهو أمر نحتاج إلى أن نمارسه باقتدار كي يخرجنا الله من ضيق الاتهام الشخصي إلى وسع الاختلاف الموضوعي.
في هذا الباب أريد أن أستشهد ببيان رابطة العلماء السوريين الذي كان في بعض أجزائه موضوعيا في موقفه من الشيخ البوطي مبينا اختلافهم معه في الرأي بل واستنكارهم لموقفه، ولكنهم في ذات الوقت بينوا استنكارهم للتفجير الذي أودى بحياته، وحافظ البيان على مقام المشيخة للشيخ البوطي ولم يكن فيه أي تجريح لشخصه، وحث البيان أبناء الشعب السوري الكريم "أن يبتعد عن مواطن الخلاف والشقاق" ثم بين أنه ينبغي على الشعب السوري أن يرص صفوفه ويلتف حول علمائه الثقات ويعف ألسنته عن القيل والقال وليحافظ على وحدة الشعب السوري. أعجبني البيان في حرصه على عفة اللسان والحرص أن يكون النقد لرأي الشيخ البوطي لا لشخصه.
وأعجبني أيضا موقف الشيخ محمد أبو الهدى اليعقوبي وهو أحد المشايخ الذين كانت لهم مواقف جادة في عدد من المقالات ضد الشيخ وفتاواه المؤيدة للنظام، إلا أنه عندما بلغه الخبر مقتل البوطي كان موقفه موضوعيا وصرح به علانية رغم معارضة البعض له فصرح في وسائل الإعلام بحزنه على مقتل الشيخ البوطي، ثم أصدر بيانا مهما بدأه بعزائه للأمة في "استشهاد العلامة الجليل وقد ختم الله بخير وأكرمه بالشهادة" ووضح الشيخ اليعقوبي أن الشيخ البوطي كان "مجددا في الفكر والعقيدة عالما ربانيا دافع عن الإسلام" واستمر البيان يبين فضائل الشيخ البوطي (رغم الخلاف بين الشيخين) ويفند حادثة اغتياله.
إننا في حاجة لأن ينتشر هذا الوعي وهذا المستوى من الموضوعية الذي مارسه كل من رابطة العلماء السوريين والشيخ اليعقوبي وهم أحق الناس بعداوة الشيخ البوطي والتجريح فيه إن كان لا بد من العداوة والتجريح فهم خصومه في ساحة المعركة مع الثوار، وهو بآرائه كان في المعسكر الآخر، لكنه رقي الموضوعية وأدب الخلاف حين يفرض نفسه على الجميع.