-1-

في بداية الربيع العربي – قبل عامين من الآن – كان الجمهور العربي يعتقد – خطأً - بأن حلم الديمقراطية العربية، أصبح "قاب قوسين أو أدنى"، و"أقرب إلينا من حبل الوريد". ولكن ما إن حُصد الحصاد، حتى وُجد أن "حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر"، كما نقول - في تراثنا - بكل بساطة، ووضوح. فماذا حصل؟ ولماذا حصل ذلك؟

يجب أن نعود، إلى الفكر، والعلم، والعقل، والتاريخ، لكي نعرف الحقيقة. ومن دون ذلك، لن نعرف غير الصراخ والعويل. والفكر، والعلم، والعقل، والتاريخ، يقول لنا:

إن من عوائق التطبيق الديمقراطي في العالم العربي عدم معرفتنا وعلمنا، وفقر خبرتنا في إدارة آليات الديمقراطية المعقدة. وكل هذا يعود إلى افتقارنا لقاموس سياسي، وإلى عدم وعينا بعلاقة الديمقراطية بالتراث.

ويُرجع بعض المفكرين العرب عوائق تحقيق الديمقراطية إلى أن المجتمعات العربية مجتمعات فاشلة في إدارة آليات الديمقراطية. وإضافة إلى الفشل في إدارة آليات الديمقراطية، فهناك افتقار لدينا في لغة ومفردات واصطلاحات الديمقراطية. كما كان يرى المفكر الليبي الراحل الصادق النيهوم في كتابه (صوت الناس.. محنة ثقافة مزورة) ص 198.

-2-

ولعل مرد هذا، يعود إلى فقر قاموس الفكر السياسي العربي، الناجم عن عدم وجود تراث سياسي في التاريخ العربي. كما يرد بعض الباحثين، سبب عدم تحقيق الديمقراطية في العالم العربي إلى عدم وعينا بعلاقة الديمقراطية المنشودة بالتراث. وإلى انتظارنا لزوال التخلف العربي. ونحن بذلك نعترف بصورة غير مباشرة، بأن الديمقراطية لها جذور كبيرة ممتدة في التراث العربي، لا تقل عن تلك التي كانت ضاربة في التراث الإغريقي.

ويقول هؤلاء، وعلى رأسهم الباحث والمؤرخ اللبناني فيكتور سحاب في كتابه ("ضرورة التراث"، ص 73)، "إننا لا نُبدي أي دليل على أننا نعي الديمقراطية المنشودة بالتراث".

-3-

ويميل بعض الباحثين المعاصرين إلى إحالة عوائق الديمقراطية العربية الى أسباب مختلفة، منها ما يتعلق بوجود إسرائيل. كما تتعلق بهشاشة وضعف المعارضة، وعدم وجود برامج سياسية واقعية وعلمية لها.

وقد ساعدت العوامل التالية – دون شك – على إعاقة كثير من الاستحقاقات الديمقراطية:

1- سيطرة النفوذ الأجنبي، ومصالحه، في العالم العربي.

2- مناداة الأحزاب السياسية بشعارات ديمقراطية، لا تمارسها.

3- عدم ديمقراطية المثقفين أنفسهم مع بعضهم ببعض.

4- غياب المؤسسات السياسية.

5- وجود معارضة ضعيفة، وهشَّة، ومُشتراة بسهولة، في أنحاء كثيرة من العالم العربي.

6- وأخيراً، التباس جوهر ومعنى الشرعية في الممارسة الديمقراطية.

فهل هي شرعية الأمر الواقع، أم هي الشرعية الحقيقية؟

-4-

لقد تبنّت معظم البلدان العربية الديمقراطيـة بعد الاستقلال، ليس كنظام سياسي، ولكن لارتباطها بالتطور والتقدم. وتمَّ تطبيق الديمقراطية في أنحاء قليلة من العالم العربي تطبيقاً هامشياً في مجتمع فلاحي، فقير، بائس، وأمي، وأُفرغت الديمقراطية من محتواها الأساسي وهو الحرية، على حد تعبير المفكر اللبناني سويم العزي في كتابه (الديكتاتورية الاستبدادية، والديمقراطية، والعالم الثالث) ص150.

-5-

ظهرت ما بين الحربين العالميتين، أزمة في المدرسة التقدمية الديمقراطية، أعاقت الكثير من الاستحقاقات الديمقراطية لمدة طويلة. وقد برزت مظاهر كثيرة ومختلفة لهذه الأزمة، منها:

1- إن المثقفين التقدميين، كانوا يغيّرون مبادئهم عندما يتسلمون الحكم، كما حصل مع "حزب الأحرار الدستوريين" المصري، الذي أوقف العمل بالدستور، عندما تسلّم الحكم في العام 1928.

2- إن الأحزاب والحركات الوطنية في هذه الفترة لم تستثمر الأفكار التقدمية التي كانت مطروحة على الساحة السياسية العربيـة استثماراً جيداً ومفيداً لصالح البناء الديمقراطي.

3- كانت هذه الأحزاب والحركات الوطنية في داخل تنظيماتها، تشكو من عدم توفر الروح الديمقراطية في النقاش، والمجادلة، والاختلاف، والمغايرة. فكان حالهم حال من "يدعون إلى البِر وينسون أنفسهم".

4- كانت آليات تداول السلطة محدودة جداً.

5- كان تعامل الأحزاب والهيئات الوطنيـة مع بعضها أبعد ما يكون عن الديمقراطية التي كانت كل الأحزاب العربيـة تقريباً تنادي بها، وتسعى إليها.

6- لا شك أن ارتفاع نسبة الأمية في الوطن العربي ساهم مساهمة كبيرة في عدم تطبيق بعض الاستحقاقات الديمقراطية. والأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب لا يستطيع أن يقرأ البرامج السياسية – إن وُجدت – للمرشحين للسلطة والمقارنة بينها. وينساق لدعاية كاذبة ومضللة.

7- وأخيراً، كان أحد مديري صندوق النقد الدولي السابقين قد قال بأن تطبيق الديمقراطية السليم، يجب أن يتم في المجتمعات الغنية. واشترط ألا يقل دخل الفرد السنوي عن عشرة آلاف دولار. وكان العالم العربي بين الحربين العالميتين السابقتين، فقيراً وإمكانياته المادية محدودة، فلم يستطع أن يطبق نتيجة لذلك أية آلية من آليات الديمقراطية المعروفة في الغرب. والتي - ربما - لا تصلح لنا نتيجة لاختلاف الزمان والمكان، والجغرافيا، والتاريخ، والتربية الاجتماعية، وطبائع الناس، وعقائد الجمهور.. إلخ.