..واحتملوها وتحملوها، بين الفينة والأخرى، لأن أحاديثي عنها بين مقالات شاردة لا تمثل رغبة شخصية في "شخصنة" أم، بل توثيقا لذاكرة جمعية توشك أن تنقرض وأن ترحل. صورة جديدة لم أسمعها من قبل من أمي رغم سيول حواراتنا الطويلة (أول "ما فاعوا" علينا النصارى). مشهد قريتنا الجبلية النائمة تحت بطانية الغيم، قبل أكثر من ستين سنة، وهي تشهد أول كتيبة عسكرية تركب "الرادار" الجوي على الجبل "الظاهر" فوق القرية: وصف أخاذ لرهبة ذلك الصباح وهيبته، وهم يشاهدون على الطبيعة أول وجه "أحمر" في قلب الجلود السمراء. أول لسان "أعجمي" في القرى التي عاشت ثلاثة آلاف سنة على أقل من ثلاثين حرفا من قاموس لا يزيد ـ في المعدل اليومي ـ على مئة كلمة.

تصف والدتي ـ في سرد عاصف ـ تفاصيل "الهربة" ذعرا ووجلا من هؤلاء "الغزاة"، وكيف "تحاشروا" في "سفالي" منازل الطين يوم "فاع" النصارى على هذه القرى ليعلنوا ـ وللمرة الأولى في تاريخها ـ دخولها إلى "أطلس" هذا العالم. تكتب لي بلسانها كيف انبرى ابن عمها، وعمي الأثير: عوض بن هيف، ببندقه "العصملي" إلى قلب كتيبة الغزاة، وكيف فتح الله عليه "ليرطن" معهم بحروف جديدة من خارج هذا الكون، ثم يعود إليهم بشيرا مطمئنا: هؤلاء هنا بمعرفة الحكومة لحماية "البلاد". تسرد والدتي حوار القرية السمراء مع الرجل الأحمر. أول من أحضر "القواطي" إلى تلك الشعاب، وكيف كانوا يجمعونها بحذر وخوف ثم يطوعونها لاستخدامها فيما تحتاجه حياتهم اليومية. أول من أدخل "كرتون" الصابون إلى القرية مثلما تصف منظر الذهول من رغوته.

أول من عالج الجروح بالمساحيق الطبية، بعد أن كان أهل القرى يصبون عليها "بول الإبل" المخزن من ناقة النجدي الذي كان يأتي إلى أهلي في زيارة سنوية. تتحرك أمي "يمنة ويسرة"، وهي تصف منظر النصراني يسوق "اللوري" فوق الأحجار، وكيف كانت دواب القرية تهرب مثل "العفاريت" عندما تسمع صوت السيارة. حتى دواب تلك القرى كانت لها أيضا ذائقتها السمعية، وتفاصيل النشاز في صورتها البصرية، والحق أن والدتي طال بها العمر ـ ولله الحمد ـ حتى تماهت لديها وتلاشت عندها رهبة الحوار مع الغرب وفزاعة اقتراب النصراني. سكنت مثلما تسكن الأمم وتطمئن عندما رأت عيانا سبعة من أولادها وأحفادها، عاشوا ـ وبعضهم ـ لا يزال في براري شمال القارة الأميركية. تنهرني بعصاها وأنا أضحك على هذه الذكريات، ثم تقول: أنت يا علي "ما تختلع من النصارى"؟!