انتقد عدد من مغردي "تويتر" والكتّاب والإعلاميين تصريح وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبدالعزيز خوجة حول عدم جواز التشهير بأصحاب الشهادات الوهمية مؤكدين على ضرورة التشهير بهم وخاصة من أصحاب المناصب وأن تركهم ليس من صالح الدولة.
وكان رد الوزير على الانتقادات السابقة بأن "التشهير الجاري حاليا بحاملي الشهادات الوهمية مفتوح على كل الاحتمالات، ويخلط الأسماء، ويتهم الناس عشوائيا، ويصدر من أفراد دون اتكاء على معلومات محققة، وهو مسلك خاطئ، يوسع دائرة الاتهامات ويقدح في ذمم الناس العلمية دون ضوابط"، وأشار إلى أن محاربة الشهادات الوهمية "يجب أن يتم عبر مرجعيات واضحة مثل وزارة التعليم العالي أو لجان فرز أكاديمية رفيعة المستوى".
أتفق مع الدكتور (خوجة) حول عدم وجود ضوابط حول التشهير بالمفسدين عموما وليس فقط بحملة الشهادات الوهمية، بل وأضيف أيضا على تصريحات الوزير، بأن الوضع الحالي لكشف الفساد على شبكة الإنترنت وبالأخص مواقع التواصل الاجتماعي؛ قد تستغل من قبل بعض الأفراد والفئات للتشهير والانتقام لأغراض شخصية، ولكن هنا أتساءل: لماذا لم تتحرك الجهات المختصة مثل وزارة التعليم العالي حيال أصحاب الشهادات الوهمية قبل التشهير بهم على الإنترنت؟
أليس من المفترض تقديم الشكر والامتنان إلى من قاموا بكشف الفساد وسلّطوا الضوء على قضية لم يتم الالتفاف إليها من قبل؟ وكانت من نتائج هذا التشهير إقرار مجلس الشورى مشروع نظام توثيق ومعادلة الشهادات العليا والذي يهدف إلى "تطوير آلية معادلة الشهادات للحاصلين عليها من جامعات غير سعودية وذلك لكافة الراغبين في الاستفادة من شهاداتهم والألقاب المرتبطة بها معنويا أو مهنيا أو وظيفيا في القطاعين العام والخاص للسعوديين وغيرهم"، ويا ترى لو لم يتم التشهير بحملة الشهادات الوهمية، فهل سوف يقر مجلس الشورى مثل هذا النظام؟
لا شك أن عملية التشهير أثارت اهتمام الرأي العام، وفتحت ملف قضية كانت مقفلة في الماضي، كما نبهت الجهات المختصة إليها، وأيقظتها من سباتها، ولكن في الوقت ذاته، فإن لهذه الممارسة مخاطرها أيضا، والتي أشار إليها وزير الثقافة والإعلام، وهي غير قاصرة فقط على الأبرياء بل أيضا على من يقومون بفضح الفساد والمخالفات، فهم عرضة للمساءلة والمحاكمة في حال عدم وجود أدلة ومستندات تؤكد هذه المخالفات، وبالتالي قد يتعرضون للانتقام والتنكيل من قبل المفسدين.. فهل نمنع مثل هذه الممارسات؟
مع تزايد معدلات وحالات الفساد، من الطبيعي أن نجد من يتطوع إلى كشفها والتنبيه إليها، وحين لا يبادر المسؤولون في الجهات الحكومية إلى التحرك واتخاذ اللازم لمنعها ومحاسبة المسؤولين عنها، فإن كشفها خارج إطار الجهة واستخدام الإنترنت يكون مبررا، وخاصة إذا كان هؤلاء المتطوعون قد يتعرضون لأخطار وظيفية بسبب مواقفهم الصريحة أمام قضايا الفساد، ولا أبالغ إن قلت إن في بعض الجهات الحكومية يعتبر النقد وإبداء الرأي من المحرمات الوظيفية، ومن ينتقد من الموظفين يعتبر موظفا مشاغبا تجب معاقبته أو على الأقل إبعاده والتضييق عليه، فما بالك بمن يكشف المخالفات والأخطاء والممارسات التي لا تسمح بها الأنظمة والقوانين؟!
نحن إذن أمام قضية قد تبدو شائكة ومعقدة، ففي حين يعد كشف الفساد واجبا دينيا ووطنيا، إلا أنه في الوقت نفسه له مخاطر عالية، قد تضعف من مصداقية المطالبين بمحاربة الفساد كما رأينا آنفا. ليست الجهات الرسمية هي المسؤولة والمختصة في كشف الفساد وحسب، وإنما المواطن أيضا مسؤول ومختص عن كشفه، فإذ كنّا نطالب بوجود ضوابط لكشف الفساد، فمن الضروري أيضا وجود ضوابط للتنبيه عنه بأي وسيلة كانت.
فبالرغم من تقدم أساليب كشف الفساد، فإن أكثر قضاياه لا تكتشف إلا من قبل أشخاص يخبرون سرا أو علنا عن تفاصيل حالة القضية، وليس من قبل موظفي الأجهزة الرقابية أو هيئة مكافحة الفساد، وفي الولايات المتحدة الأميركية ظهر مصطلح (نافخ الصفارة) والذي يعني قيام الموظفين وغيرهم بالتطوع والمبادرة للكشف عن الممارسات غير المشروعة وغير الأخلاقية والتي تضر بمنظماتهم وتسيء لسمعتها.
و"نفخ الصافرات" في أميركا مسموح به وشُرعت له القوانين والأنظمة التي تنص على حماية الأشخاص الذين يكشفون عن المخالفات ويعرفون الرأي العام بالتصرفات غير المشروعة والتي تدخل في نطاق الفساد المالي والإداري في الجهات الحكومية وكذلك الشركات والمؤسسات في القطاع الخاص، وبالتالي فإن "نفخ الصفارة" له تأثير كبير على مكافحة الفساد، فعندما يعرف المسؤول أو الموظف بأن زملاءه في العمل أو غيرهم من المواطنين يمكنهم تقديم شكاوى الفساد بطريقة سهلة وميسرة وفي أغلب الأحيان سرية؛ فإن هؤلاء الموظفين سوف تضعف رغبتهم ويفكرون آلاف المرات بلا شك قبل الإقدام على ارتكاب جرائم الفساد.
نحن بالفعل بحاجة إلى وجود قوانين وأنظمة تحمي أولا "نافخي الصافرات"، وتشجعهم ثانيا على التطوع والمبادرة إلى كشف الفساد، وهذا بدوره سوف ينعكس بالإيجاب على الجهات الحكومية والشركات، من خلال التحرك والتعامل بجدية مع الشكاوى والمخالفات، ومن ذلك على سبيل المثال تخصيص ما يسمى بالخطوط الساخنة، أو خط المعلومات السرية.
كما يجب أيضا الأخذ في الاعتبار، وضع وقواعد وضوابط للإبلاغ عن قضايا الفساد، توضح ما ينبغي فعله من قبل نافخي الصافرات، مثل ضرورة وجود الأدلة والمستندات التي تثبت وقوع الممارسات وصحة الادعاءات، وتوضيح الناحية القانونية لها، والجهات التي يمكن التوجه إليها بحسب درجة الخطورة والضرر مثل الجهات الحكومية نفسها أو الأجهزة الرقابية الرسمية والأجهزة القضائية ووسائل الإعلام المختلفة، بالإضافة إلى توضيح الوسائل الحديثة التي يمكن استخدامها في الإبلاغ عن جرائم الفساد، وبذلك نستطيع إشاعة الشفافية وتمكين الرأي العام من ممارسة دوره في الرقابة على الجهات الحكومية.