الصحافة التي لا تؤثر في محيطها الاجتماعي، وتكسبه بعض الفوارق والمميزات الذهنية والتراكمات المعرفية، ليست صحافة ذكية بالقدر الكافي لتحمل صفة الصحافة، لأن نمطية الإصدار والاكتفاء بحالته توقعها في مأزق الرتابة، وتزيد من فقدانها الشعبية اللازمة لمواصلة أدائها التنويري المُفترض، ويقيناً ستنهار في نهاية المطاف، لتبقى في ذاكرة الشارع مجرد لافتة شكلية كانت على الدرب.
فالصحافة جزء من جيش البنائين الدؤوب للعقلية الإنسانية، الذي يهتم بتطوير الوسائل الاتصالية بين المجاميع الجماهيرية، إلا أنها قد تتحول أيضاً – تحت ظروف معينة - إلى معاول هدمٍ خرقاء وعمياء، لا يمكنها أن ترى إلا من زاوية أحادية ضيقة، لا تعترف بمساحات الرأي الآخر، مكونة بذلك بذور الأنانية التي تدفع بالعقلية الاجتماعية إلى ناحية واحدة غير متصالحة مع الآخر. يقول الأستاذ (أديب مروة) في كتابه "الصحافة العربية": "الصحافة فن تسجيل الوقائع اليومية بدقة وانتظام وذوق سليم مع الاستجابة لرغبات الرأي العام وتوجيهه، والاهتمام بالجماعات البشرية وتناقل أخبارها، ووصف نشاطها ثم تسليتها وتزجية أوقات فراغها وكل هذا، فالصحافة هي مرآة تنعكس عليها صورة الجماعة وآرائها وخواطرها".
وكتّاب الصحف اليومية يُعتبرون من الركائز الأساسية المؤثرة في الرأي الاجتماعي العام، وبشكل كبير تقع على عاتقهم مسؤولية نتائج ذلك التأثير الثقافي والفكري والسياسي على الجماهير المتلقية سلباً أو إيجاباً، من خلال ما يطرحونه ويتناولونه، حتى وإن رأى البعض جدلية هذا الدور واختلف واتفق حول قوته البعض الآخر، لكنه قطعاً على الرغم من ذلك موجود وله عنفوانه. فالكاتب في النهاية ليس الخصم وليس الحكم، بل ليس هو "الخصمُ والحكمُ" كما يتصوره أو يُحب أن يُصوره البعض على هذا النحو التصنيفي المنحاز! فهذه مفارقة لا تحتكم إلى أسس علمية، بقدر انطلاقها من بواعث تتعلق بالعواطف الإنسانية المحضة، وهذا القول لا ينطبق على الجميع بالطبع، فالكيانات تختلف باختلاف الثقافات، وتشكل رؤيتها الخاصة بها بناءً على نوع وثقل الثقافة التي تُسيطر عليها وتقع تحت تأثيرها مباشرةً، وهكذا يذهب البعض منجراً خلف الأحكام الفردية الجامدة المسبقة، التي عبر عنها مُطلقوها هنا وهناك، ويتلقف أطرافها البعض الآخر ويتبناها كرأي شخصي نهائي! وبالمقابل ينهار مثل هذا التبني عند شريحة أخرى، لها تكوينها الخاص على الرغم من انتمائها لذات النسيج الاجتماعي، لذا ستستمر هذه الجدلية إلى ما لا نهاية.
وهنا على صدر صحيفة الوطن وموقعها الإلكتروني، لا يختلف الوضع كثيراً، ولكن ربما له شكله ومذاقه الخاصان به. وهو ما حدثني عنه قبل أسابيع الصديق الأستاذ (أحمد الحربي) الرئيس السابق لنادي جازان الأدبي، وهو شاعر وكاتب رأي قدير بصحيفة الشرق، وما أبداه أيضاً بعض الأصدقاء من الكتاب في صحف أخرى، عن إعجابهم الشخصي بالمستوى الثقافي والفكري الذي يتمتع به قراء صحيفة الوطن تحديداً، والذي انعكس لديهم من خلال متابعاتهم الشخصية، للردود والمداخلات التي يسجلها القراء على معظم المقالات المنشورة بموقع "الوطن"، وامتدحوا لغة الحوار الواعية وروحه العالية لدى كوكبة جيدة منهم، وأشادوا بالخلفية الثقافية لكثير منهم، كـ(المهندس محمد الشنقيطي، والحربي نبض المجتمع، ودعشوش، وسفر المرشود، ومرام الشعبي، وحمد الربيعة، وأم سعود.. وغيرهم من الأسماء)، وهذا يدل على حقيقة حجم التأثير الطيب المُفرح، الذي يتشكل في عقلية المتلقي كنتيجة إيجابية للمطروح الكتابي وتراكماته، ويساعد على تطوير المكون الفكري التفاعلي بين الطرفين، وهذا في الواقع هو ما يجب أن تكون عليه العلاقة الثقافية بين (الكاتب والقارئ)، ومضمون الرسالة الإعلامية يتكئ أساساً على صياغة لغة مثقفة، ترتفع بذكاء المتلقي إلى مساحات إدراك أوسع، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الصحف هي من تصنع الفوارق الثقافية من شخص إلى آخر، لكنها أحد أهم الروافد التي تصب في الجسد الثقافي العام، وبالتأكيد أن خلفية القراء الثقافية في "الوطن" وغيرها إنما هي نتاج صحيح لقراءات اختيارية متواصلة وجادة، يدعمها حس حقيقي يتطلع لمواكبة النشاط والحراك المختلف في اليوميات الإنسانية، سواء كانت ثقافية أم سياسية أم فكرية أم رياضية، وذلك في نهايته أمر مفرح ومُشجع يحرض على التواصل الخلاق فيما بيننا كبشر، نحمل هم المصير المشترك ذاته، وتجمعنا ذات الفواصل التي يعتقد الآخر ربما بتصنيفها الفج لآدميتنا وإنسانيتنا.