كل النساء اللاتي يملكن مليار دولار وأكثر ورثّنها عن آبائهن أو أزواجهن؛ إلا امرأة عصامية واحدة، استطاعت بعرق جبينها وإيمانها المتواصل بموهبتها؛ أن تكون أول "مليارديرة" عصامية على وجه المعمورة.

لكن دعونا نعد إلى المليار الأول، إلى الوراء قليلاً، فقط إلى عام 1990، حينما كانت "جوان رولينجJoanne K. Rowling" في الخامسة والعشرين من عمرها، وكانت قابعة على كرسيٌ متهالك ضمن مقطورة الدرجة السياحية، في رحلة قطار رتيبة ومزدحمة، ما بين "مانشستر" إلى "لندن"، لكن تلك الأجواء المملة ما تلبث تجعلها تحلّق بعيداً نحو الخيال والإبداع، حتى تلهم بفكرة رواية مثيرة عن ساحر صغير يدعى "هاري بوتر". تقول "رولينج": "حطت الفكرة فجأة في رأسي!" وتضيف:" كنت أكتب تقريباً منذ كان عمري ست سنوات، ولكنني لم أتحمس لفكرة قط مثلما تحمست لهذا الإلهام، وخلال أربع ساعات -وقد تأخر القطار في وصوله- تفجرت في ذهني كافة التفاصيل، جسد هزيل، أسود الشعر، يرتدي نظارة طبية، فتى طيب لم يكن يعلم أنه ساحر! لكنه يدرس في مدرسة للسحر، يجبر نحو مصارعة الأشرار، للحفاظ على إرث والديه، وللدفاع عن البشرية كذلك.

خلال السنوات التالية وقد بدأت "رولينج" بالكتابة، مرت بأسوأ حالاتها النفسية والمعيشية، وعملت سكرتيرة خارج بلادها، وجليسة أطفال، وعاشت رحلةٍ زواجٍ فاشلة، ثم فجعت بوفاة أمها، لتضطر للعيش عالة على أختها في "أدنبرة"، كما أنه وعلى الرغم من حصول "رولينج" على شهادة جامعية في الأدب الكلاسيكي؛ إلا أن تخصصها الأدبي هذا لم يشفع لها عند أي من الناشرين الكُثر الذين جالت عليهم، حتى عام 1997 حين تشجعت دار نشر "Bloomsbury" لطباعة الكتاب، لكنها رفضت أن يكتب اسم المؤلفة كما هو، معللة ذلك بأن جمهور القراء لا يحبذون شراء كتاب أطفال كتبته امرأة!، مما جعلها تستخدم J.K كاختصارٍ لاسمها في الطبعات الأولى من الرواية، لكن المثير في الأمر أن الجزء الأول من الرواية وكان عنوانه: "هاري بوتر وحجر الفيلسوف" حقق اكتساحاً لا يصدق، وتصدر قوائم الكتب الأكثر مبيعاً خلال أسابيع قليلة، وبدأت تظهر مراجعات نقدية وتقارير صحفية إيجابية تتكلم عن هذه الرواية الظاهرة، وكيف أن الجميع أصبح يوصي أصدقاءه بشراء تلك الرواية التي تجعل الأطفال والمراهقين متعلقين بها حتى إنهائها كاملة، على الرغم من صفحاتها الطويلة وقصصها المتداخلة!

تعتمد حبكة القصة الأساسية على الفتى "هارتي بوتر" وأصدقائه الذين يدرسون في مدرسة "هوجورتس" للسحر والشعوذة، وجولات الكر والفر للشاب اللطيف "بوتر"، وصراعه المتواصل مع ساحر قوى الظلام "اللورد فولدمورت"، الذي يعمل لأن يصبح خالداً، وقاهراً لقوى عالم السحرة، بهدف أن يتحكم بالبشر، بعد أن يقوم بتدمير كل من يقف في طريقه، وخصوصاً بطلنا "هاري بوتر"، الذي أضحى الآن أشهر بطل رواية شبابية في العالم، باعت أكثر من 450 مليون نسخة حتى الآن، وترجمت إلى 67 لغة حية!

وهكذا كرّرت سلسلة نجاح لا تتوقف، وتحولت إلى ظاهرة كونية متصاعدة، لتبدع الكاتبة سبعة أجزاء متتالية من السلسلة، وثمانية أفلام سينمائية، وهكذا تكونت بالتدريج إمبراطورية "هاري بوتر" الضخمة، من سلسلة روايات، وكتب مصوّرة، وأفلام، وألعاب فيديو، وبضائع تذكارية، وحتى مدينة ألعاب كبرى في "أورلاندو" الأميركية، بالإضافة إلى موقع إلكتروتي مبتكر: www.pottermore.com، أشرفت على تنفيذه هذه المبدعة الشغوفة، من خلاله يختبر المتصفح تجربة قراءة تفاعلية للرواية، يستطيع أن يضيف ويعدل على القصة ما يشاء، وقت ما يشاء، مما يجعلها تجربة فريدة من نوعها، وتجعل القارئ في موقع المتحكم بالقصة، وليس متفرجاً فقط، كما أنه يوفر تجمعاً لمهوسي القصة، وفرصة لتبادل الخبرات والقصص بين المهتمين، كل هذا وصل بالعلامة التجارية لهاري بوتر إلى أن تقدر حالياً بخمسة عشر مليار دولار أميركي!

بعد أن أنهت "رولينج" قصة "هاري بوتر" عن سبق إصرار وترصّد، رغم أنف ملايين المعجبين والمعجبات حول العالم؛ انطلقت على الفور إلى مغامرة جديدة، ولكنها اقتنصت إلهامها الجديد في الطائرة هذه المرة، وليس في مقطورة قطار متهالك كما "هاري بوتر"، حيث وبعد خمس سنوات من الكتابة أصدرت رواية "The Casual Vacancy" أو"المقعد الشاغر"، وهي أولى رواياتها للبالغين، تلك الرواية التي تتناول بلدة "باغفور دPagford " التخيلية، حيث يتوفى فجأة عضو مجلسها البلدي، ويشغر مقعده بالمجلس، ثم يبدأ صراع دموي ومثير للفوز بانتخابات هذا المقعد الشاغر، خصوصًا في بلدة كانت مقصداً للسياح ومثالاً للنظافة والتقدم، لكنها تحولت مع مرور الزمن إلى منطقة متخلفة ومليئة بالمجرمين ومتعاطي المخدرات. يشير عدد من النقاد إلى أن الكاتبة هذه المرة استوحت فقرها المدقع، وإصابتها بالسلوك القهري لتضمنها وسط شخصيات روايتها الجديدة، بل إنها تصف بدقة قصص السكان البائسين، الذين أغلقت أبواب الدنيا في وجوههم، مما حدا بهم إلى الغرق في طوفان المخدرات والعنف، ولكن حتى الآن لم تحقق هذه الرواية الجديدة النجاح المتوقع، خصوصاً عندما تقارن مع النجاحات الأسطورية لسلسلة "هاري بوتر".

كثيرون تحدثوا عن قصة نجاح "رولينج"، وعن إبداعها المتقن في وصف أجواء عوالم قصصها، فضلاً عن تربيتها لجمهور وفيّ من القراء، كانوا يكبرون في العمر، وتكبر معهم قصة "هاري بوتر" بالتالي، لكن الجميع أجمع على أن حجر زاوية نجاحها؛ هو إيمانها التام بموهبتها، وأنها كانت متأكدة من أن إنتاجها الأدبي يستحق أن يصل إلى الجمهور، وما قصة إصرارها لمدة سبع سنوات متواصلة على النشر، بعد أن رفضت من ناشرين عدة إلا دليل على أن الإصرار هو معدنها الأساس، وأن إصرارها الحالي على الانتقال إلى مرحلة جديدة بعد "هاري بوتر" يؤكد أن النجاح سوف يكون حليفها مرة أخرى.