سيطرت قضية الشهادات الدراسية الوهمية على حديث المجالس والمواقع الإلكترونية وبرامج الحوارات التلفزيونية، وتفتقت الأخبار عن أسماء لأعلام "تدكتروا" ثم تم دحرجتهم من هذه المنزلة.

وتفتقت الأخبار وكانت رتقاً عن مصانع محلية لطباعة وتزويق (تزوير) الشهادات وبيعها على الراغبين.

وكنتُ وكثيرون غيري نعرف أناساً ما جعل الله لهم نصيباً من العلم لا رغبة ولا فطنة ثم نكتشف على حين غرة أنهم صاروا من حملة الشهادات العليا، ولأننا نعرفهم حق المعرفة فإننا لا نجد تغييراً قد طرأ على حامل هذه الدكتوراه إلا ما قد تحقق له من تقدير وحظوة في المجالس عند مجتمع قد غيرته المدنية فصار يداهن ويحتفل بالألقاب والملقبين ولا يحتفل بالمنتجين. وهذا مما كرس عندنا صفة العيب في الحرف والمهن الدنيا؛ بل إن ذلك مما أفسد النشء وجعلهم يتطلعون للتزين بالشهادة ليس لرغبة في العلم ولكن رغبة في المنصب وكسب احترام المجتمع، ومن هنا شاع استخدام لقب "الدكتور" كصفة لازبة ولازمة لبعض حملتها إلى جانب الاسم الشخصي، يسير اللقب إلى جانب الاسم حذو القذة بالقذة ولم نعد ننادي حامل الدكتوراه باسمه بل نبتدر مخاطبته بكلمة يا دكتور، فإن كانت من باب التقدير فثمة آلاف من حملة الماجستير الذين كدوا وتعبوا في دراستهم فلماذا لا نخاطبهم بكلمة يا مجستر؟! وماذا عن أصحاب الشهادات الجامعية والمبرزين فيهم لماذا نناديهم بأسمائهم الحافة يا خالد أو يا فهد أو يا حسن أفلا يحق لهم أن يقال لأحدهم يا أستاذ. فإن كان الرد بلا لأن في ذلك تكلف لا تقتضيه حميمية المجالس؛ فلماذا لا تسري هذه العفوية على حملة الدكتوراه مثلما يحدث مع حملة الماجستير والبكالوريوس.

أظن أننا بحاجة لحملة شعبية وطنية لتنظيف المجالس والمنتديات من هذا التزييف وهذه المجاملة، وأن يُحمل الناس تقديراً على أخلاقهم وعلمهم الظاهر في حسن التعامل وسعة الإدراك لا بحسب شهاداتهم الصحيحة ناهيك عن الوهمية؛ خاصة إذا علمنا أن الأحق بالتقديم والتقدير هم العلماء العلميون فيما يخص الجوانب الفيزيائية والكيميائية والطبية والهندسية، وكذلك علماء الفقه والقانون وليس من يحمل دكتوراه الصيف أو الدكتوراه بالمراسلة وعن بُعد.

وأن ما يسري من كشف لعورات المزيفين من حملة الشهادات جدير بأن يسري على من استثمروا حب أهل مجتمعنا للصالحين وتقديرهم لعلماء الشريعة والمشايخ؛ فقاموا باستغلال هذه العاطفة وتمسحوا بمسوح الصالحين شكلاً من حيث إعفاء اللحية وتقصير الإزار، وقاموا يتكسبون بهذا الصنيع الذي بلا شك أكسب كثيراً من الفارغين والعاطلين منهم قيمة ووزناً ما كان ليكون لهم لو ظهروا بحالتهم الحقيقية التي تعبر عن فراغ علمي وثقافي، وكلنا نعلم أن "النفاق" أو الخطل والتزييف شبهة لا تنكشف إلا بالمعرفة الشخصية حين يتخلى المنافق أو المتزين أو المتزيف عن شخصيته المتلونة ويرجع إلى حقيقته الأصلية، وقد ورد وصف مثل هؤلاء في القرآن الكريم (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون).

وهكذا فإن الصحوة بإيجابياتها الواضحة قد عمقت الحس الديني في نفوس الكثيرين وحرضت مجاميع من الناس على الالتزام بأهداف الدين وتعاملاته، لكن الصحوة بالمقابل قد أفرزت في هذا الخضم المتلاطم جمعا من الانتهازيين الذين صارت لهم الحظوة وتسنموا مقاعدهم في رؤوس المجالس لمجرد أن تمثلوا بشكلانية المظهر والسمت الذي كان عليه طلاب العلم الشرعي وعلمائه، كما أفرزت الصحوة جمعا من الغلاة الذين كانوا يتعصبون لرأيهم ويحجرون على الناس ويضيقون ما فيه سعة من الدين لكنهم تعصبوا وادعوا أن مناط الحقيقة عندهم ولا يتعداهم إلى سواهم، وكلنا نعرف أن التعصب وارد وملحوظ أحياناً في غير هذا الجانب، فقد حدث مثل ذلك في الجانب الأدبي لدى غلاة المؤيدين للحداثة في مواجهتهم للتقليديين من الأدباء؛ ولهذا جعل بعض الحداثيين صفحاتهم الثقافية والأدبية حكرا على المنتج الإبداعي الحداثي، ومن ذلك قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر ولا يسمحون بنشر ما يخرج عن هذا المسار، والحال كذلك مع الصفحات الرياضية التي يناصر محرروها فريقاً بعينه فيجعلون صفحاتهم تصطبغ غالباً بلون فريقهم المفضل، وهكذا هو التعصب الذي يحدد زاوية الرؤية في اتجاه أحادي.

الغريب أن مد الصحوة الدينية صبغ المناشط الإنسانية بصبغته الفارقة فصارت لأجيال الصحوة عطورهم الخاصة لا تشمها إلا في أعطانهم ومجالسهم، ومن ذلك البخور ودهن العود والعنبر، وكانوا يتحاشون العطور المصنعة الخارجية لشبهة اختلاطها بالكحول، كما أن الصحويين نشطوا تجارياً في هذا الجانب نسبة للطلب المتزايد، وهكذا توسعت محلات العود والورد والعنبر التي يغلب على بائعيها المظهر الشكلاني الصحوي، والحال كذلك مع باعة المساويك والعسل (الصحوي) الذي يجلب من جبال السراة أو اليمن بأغلى الأسعار، أما العسل الذي يفرزه النحل الأوروبي مثلاً فهو أرخص وأبخس أنواع العسل رغم أن النحلة الأجنبية تتنقل بين مئات وآلاف الزهور والحقول الخضراء، وقد يعود سبب غلاء عسلنا لأن نحلنا يكد ويتعب وهو يبحث عن شجرة سدر شاردة ليبحث فيها عن زهرة وارفة، لكنه قد لا يجد ما يجعله يبحث مرة وأخرى حتى يجمع عصارة جهده الذي هو بالتالي سبب غلاء نتاجه.

أيضاً فإن الصحوة قد عززت من تجارة المياه المقروء والمنفوث فيها، وراجت أيضاً تجارة الكاسيت لنخبة من الوعاظ الذين كانوا يمتنعون من الخروج التلفزيوني ويتحرجون من ذلك، لكنهم صاروا – من بعد- يخرجون للقنوات المحافظة والأخرى غير المحافظة ربما رغبة في إصلاحهم، وربما ومعهم الحق في ذلك لكسب وجذب جمهورهم من الشباب الذي يميل للقنوات الترفيهية.

مع كل ذلك فإنني أرجو أن تصيب المجتمع صحوة باتجاه فرز العلماء الربانيين والدعاة المصلحين بعيداً عن أولئك الانتهازيين أو المتطرفين الذين اتكؤوا على الشكل واكتسبوا وزنهم وقيمتهم من هذا المظهر فقط، وأرجو أن يميز المجتمع وهو يطلق عبارة "الشيخ" على مستحقها من العلماء الجهابذة بأصول الشريعة وفقه الدين؛ وألا تبتذل وتمنح صكوك المشيخة لكل متظاهر بها وغير مستحق لها.

بقي لي أن أذكر بالامتنان أن مقالة الزميل الأستاذ صالح الشهوان في الاقتصادية هي التي حرضتني على المشاركة في طرق هذا الموضوع.