على مدى ستة الأشهر الأخيرة أصبح أي حديث عن السلام بين فلسطين وإسرائيل مرتبطاً بالتحذير من موت فكرة حل الدولتين بسبب سياسات إسرائيل الاستيطانية على الأرض التي تقتل إمكانية تطبيق هذا الحل. وزير خارجية بريطانيا صرح في 22 يناير الماضي أن احتمالات تطبيق حل الدولتين أصبحت منعدمة تقريبا بسبب النشاط الاستيطاني الإسرائيلي وحذر إسرائيل من أن هذا يفقدها تأييد المجتمع الدولي. ومثل هذه النبرة غير المعهودة في التصريحات الغربية بخصوص إسرائيل تزداد مؤخرا مع ارتفاع وتيرة الشعور العالمي بأن إهمال قضية السلام على مدى العقد الماضي تسبب بالفعل في اقتراب العالم من حافة فقدان فكرة حل الدولتين، وبالتالي هدم كل أسس السلام والنظام الإقليمي الذي تم الاستثمار في ترسيخه منذ مؤتمر مدريد للسلام عام 1991.
ظهر هذا الأمر جليا في موجة الهجوم الغربية على حكومة نتنياهو في ديسمبر الماضي بعد إعلانها المصادقة على تنفيذ مشروع الاستيطان في منطقة E-1 الحساسة، حيث إن إقامة مستوطنات في تلك المنطقة تحديدا التي تمثل الممر الجغرافي بين شمال الضفة وجنوبها من شأنها أن تقتل حل الدولتين. الاحتجاج الغربي على حكومة نتنياهو جاء قويا في حينه وحتى من بعض الحكومات التي تعتبر أقرب أصدقاء إسرائيل كحكومة كندا الحالية. وزير خارجية بريطانيا وليام هيج في تصريحه المشار إليه قال إننا نقترب من الفرصة الأخيرة لتحقيق حل الدولتين، ولذلك أعلن الاتحاد الأوروبي قبل شهرين أنه بصدد عرض خطة سلام جديدة مع تشكيل حكومة جديدة في إسرائيل.
في هذا السياق تأتي زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما لإسرائيل وفلسطين هذا الأسبوع كأول زيارة خارجية له في ولايته الجديدة كمؤشر على محورية المنطقة (وزير الخارجية جون كيري زار المنطقة في أول زيارة خارجية له أيضا)، وعلى عودة قضية السلام للواجهة مع صعود التنبؤات بأن الرئيس الأميركي سيسعى في ولايته الثانية لدفع السلام من خلال مبادرة أو تحرك جديد، بعد المحاولة التي فشلت لمبعوث الرئيس أوباما للسلام في الشرق الأوسط جورج ميتشل بين عامي 2009 و2011.
فرصة السلام قد تكون الأخيرة كما يراها العديد من المحللين السياسيين، فمن جهة وصل تغيير الواقع على الأرض في الضفة الغربية إلى الحد الذي يجعل أي حل فعلي على الأرض مرهون بكثير من التنازل الذي على الأغلب لن يتمكن الفلسطينيون أو الإسرائيليون من قبوله، خاصة مع عجز السياسة الإسرائيلية بشكل عام أمام طموح وأطماع المستوطنين، في المقابل، فإن الربيع العربي ليس بعيدا عن الفلسطينيين الذين يرون في كل من فتح وحماس تعبيرا عن فشل القيادة الفلسطينية التي لم ترتق لمسؤوليتها التاريخية، ومن ثم فإن اندلاع انتفاضة ضد إسرائيل، أو حتى ثورة شبابية ضد القيادة الفلسطينية أمر غير مستبعد خاصة في حال فشل أي مبادرة قادمة للسلام أو استمرار الوضع على ما هو عليه.
مربط الفرس هنا هو حكومة إسرائيل ومدى قدرتها على أن تكون شريكا فعليا للسلام، وهو الأمر الذي تحوم حوله شكوك حقيقية، فحكومة إسرائيل الائتلافية الجديدة تمثل في نهاية المطاف امتدادا للخطاب اليميني المتصاعد في إسرائيل رغم ما يشاع عن يائير لابيد زعيم حزب المستقبل الحاصل على المركز الثاني في الانتخابات من أنه مؤيد للسلام، فواقع الأمر أن لابيد يبدو مؤيدا لعملية سلام بالقدر الذي يحسن من علاقة إسرائيل بالولايات المتحدة وليس بالقدر الذي يضعه في مواجهة الإسرائيليين كون استحقاقات السلام ستكون مكلفة داخليا على أي سياسي إسرائيلي. وبصورة عامة إن الكنيست الإسرائيلي اليوم به ما يقارب من 85 مقعدا من أصل 120 إما مؤيدون للاستيطان أو غير معارضين له بشكل قوي، كما أن نسبة اليهود المتدينين في الكنيست (فئة لابسي الطواقي اليهودية الصغيرة) بلغت ثلثي الأعضاء – وهي أعلى نسبة في تاريخ الكنيست، الخطاب السياسي في إسرائيل كما أظهرت الانتخابات ليس خطابا مؤيدا للسلام.
حزب البيت اليهودي أحد الأحزاب الشريكة في الائتلاف الحكومي هو امتداد لحزب المفدال التاريخي المكون بالأساس من المستوطنين المتشددين دينيا، وقامت حملة الحزب الانتخابية على فكرة دعم توسيع الاستيطان وإلحاق المنطقة C من الضفة الغربية رسميا بإسرائيل (annexation) وتهجير الفلسطينيين منها. هذا الحزب تمكن من الحصول على مقعد وزارة الإسكان في حكومة نتنياهو مما يعني مزيدا من دعم الاستيطان، صحيفة وال ستريت جورنال أشارت في تقريرها عن الحكومة الجديدة بتاريخ 15/3/2013 إلى أن هذه الحكومة تضم العديد من المستوطنين ومؤيدي الاستيطان، فبالإضافة لوزير الإسكان المنتمي لحزب البيت اليهودي، فهناك رئيس اللجنة المالية بالكنيست (التي لها تأثير كبير على سياسة تمويل المستوطنات)، وكذلك وزير الدفاع موشيه يعالون المؤيد القوي للاستيطان (وزارة الدفاع هي التي تمثل الإدارة الفعلية لإسرائيل في الضفة)، ومن ثم فإن واقع تشكيل هذه الحكومة الإسرائيلية الجديدة يشير إلى أن سياسة الاستيطان ستكون جزءا أساسا من توجهها، وهو ما سيضع جهود أو مبادرة أي طرف لدفع السلام وخاصة الأميركي أمام تحد حقيقي يستوجب قرارات قوية وجريئة، فالسلام ليس مرهونا بوقف الاستيطان بل بتفكيك المستوطنات، فكيف سيتم التعامل مع الفرصة الأخيرة للسلام؟
النظام الإقليمي الذي تشكل عقب مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 يحتاج اليوم لأن يتم إعادة هيكلته من خلال تحقيق اختراق بحجم مؤتمر مدريد للسلام، ولكن في اتجاه مختلف يعمل على حل الصراع حقيقة لا مجرد إنشاء آلية لإدارة الصراع كما أوجده مؤتمر مدريد، وهذا هو جوهر التحدي الحقيقي والثمن السياسي الذي يتطلب مبادرة جريئة وشاملة لا مجرد دفع المسار الحالي للسلام والذي أثبت على مدى العشرين عاما الماضية أنه محكوم بالفشل.