انطلاقاً من "خليجنا واحد، وشعبنا واحد"، أكتب عن مشاهدات تراثية وتقليدية وقفتُ عليها في دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة، وتحديداً في مهرجان (قصر الحصن) في عاصمتها البهية (بوظبي) كما ينطقها أفراد المجتمع الظبياني.. أكتب هذا بعد الزيارة للقصر، الذي شهد مؤخراً احتفالات جميلة، ومسيرات رسمية وشعبية بمناسبة مرور ما يزيد عن 250 عاما من تاريخ بناء وإنشاء أول مقر للحاكم هناك.
القصر تم تشييده بدايةً ليكون برج مراقبة للمياه العذبة، وتلاه بناء الحصن الذي أسهم في توفير الحماية والأمن للمجتمع لفترات طويلة، وشكل رمزاً للشموخ وسلطة الحكم في المنطقة، وعمل على تحفيز مجالات التنمية فيها، ومواصلة دوره كحارس أمين على المدى المستقبلي الطويل، وشكّل كذلك مقر الإقامة والحكم للعائلة الحاكمة لأجيال طويلة، كما مارس دوراً مهماً في استضافة الوفود الزائرة من مختلف أنحاء دول العالم، وتزيّنت جدرانه الخارجية بمجموعة من الأحجار المرجانية بأسلوب معماري بارع، وتمت تغطيتها بخلطة خاصة من الجبس تتكون من الجير والرمل المحلي ومسحوق صدف البحر، حيث اكتسبت جدران الحصن بفضل الخصائص العاكسة لصدف البحر، منظراً مُتلألئاً تحت أشعة الشمس؛ مما شكل منارة ترحيب وتوجيه للسفن البحرية التي يعتليها تجار المنطقة خلال رحلاتهم البحرية المتنوعة، ويتمتع القصر (منذ الماضي وحتى يومنا الحاضر) بمكانة خاصة مغروسة في قلب كل من رافق مسيرته الطويلة، ودور مهم لخدمة ورقي المجتمع وبناء الدولة ونهضتها... شدني جداً ـ وكذلك ابني الذي يدرس هناك ـ العرض المسرحي الجميل (قصة حصن، مجد وطن) الذي أخرجه المخرج والفنان الإيطالي العالمي فرانكو دراغون.. عرض تضمن لوحات استعراضية تاريخية في غاية الدقة والإبهار والإتقان؛ لوحات حكت لمحات من حياة السابقين، ونمط معيشة الذين لم يكن لهم أي مورد في الصحراء إلا الإبل والبحر، وقدمت بكل احترافية مهن الغوص وصيد السمك وتربية الإبل واستخدامها كوسيلة للتنقل.. العرض البهي تخللته مؤثرات صوتية وبصرية، وتقنيات حديثة، ومشاهد فنية عكست جوانب من التراث الإماراتي، وجسدت عراقة الماضي لأجداد الشيوخ آل نهيان الذين قدموا إلى أبوظبي من منطقة (ليوا) ليصنعوا تاريخ إمارة أبو ظبي، وكما قال الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة بدولة الإمارات: "نحن لسنا حدثاً طرأ بشكل مفاجئ، فتاريخ أبوظبي، وتاريخ سائر إمارات الدولة من دبي وحتى الفجيرة هو حقيقة ضاربة في جذور التاريخ".
فخور بحضور مهرجان وعرض قصر الحصن، وشعرت بانسجام تام مع المحافظة على الروح والعادات، لأن الرهان الحضاري اليوم ـ كما عرفت وسمعت وتأكدت ـ يعتمد بشكل كبير على القدرة على تخيل مدى القوة الهائلة التي تمتع بها من عاش قبلنا، واستطاع الحفاظ على نفسه، وعلى من حوله في بيئة قاسية لا ترحم. كما يعتمد على النجاح في فنون الخط والعمارة والتجريد، وعلى المحافظة على علوم الاستعارات، وعلى جمال الإيماءات. وفخور أكثر أن النظرة التاريخية لأقدم أبنية القصر تؤكد أن أساساته شُيّدت بالتماشي مع البنية العمرانية لمكة المكرمة في ذلك الوقت؛ ولا غرابة فالعاصمة المقدسة تميزت ومنذ القدم ـ من ناحية الآثار ـ بالمنشآت المعمارية، والمواقع الأثرية، والنقوش الكتابية، والمقتنيات الفنية الراقية.. وأخيراً لا آخراً؛ شكراً من العقل والقلب لكل معاصر لم يهجر أصالته.