-1-
هناك أسباب ثقافية، تقف كحجر عثرة في طريق الديموقراطية العربية المنشودة، تعود إلى عدم إيمان الأحزاب السياسية بالديموقراطية، واتخاذها مجرد شعارات فقط. كما تعود إلى موقف المثقفين السلبي من وجوب الاستحقاق الديموقراطي. فمن هؤلاء المثقفين من ناصر العسكر في الحكم، واعتبرهم ضمانة لسلامة الوطن. ومنهم من تعلّق بقشور الديموقراطية دون اللباب. وشددوا على النواحي الأيديولوجية، دون أن يدركوا فقدان الدواعي والدوافع الاجتماعية. ورضوا عن حصر المشروع الديموقراطي في إدارة الدولة للنشاط الاجتماعي فقط. وخافوا من أن تكون الديموقراطية سببا في الصراع والشقاق بين فئات الأمة المختلفة كما هو الحال الآن في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، وسورية، والعراق.
وأنكر بعضهم أن تكون الديموقراطية هي النظام القادر على الاستجابة لواقع الأمة، وأن الديموقراطية مجرد قاعدة متقدمة للغرب في الشرق. وعجزوا عن الوصول إلى حل للمعادلة الصعبة بين التراث والمعاصرة. وتحوّل بعضهم إلى الاغتراب. وتحوّل البعض الآخر إلى أبواق للسلطة. ونفورهم من الالتزام السياسي. وأخيرا تحويل الممارسات الديموقراطية إلى فوضى سياسية، كما الحال الآن في مصر بعد مضي أكثر من عامين على ثورة 25 يناير 2011.
-2-
وكانت نتيجة ما سبق، أن ظهرت في الأفق العربي أسباب أخرى، تنتمي إلى قصور الفكر العربي، وتتعلق بوجود عائق حضاري، يحول دون تحقيق الديموقراطية العربية، لكون بُنية الفكر العربي اتباعية وليست ابتداعية، وأن بعض المفكرين ما زال ينادي بجدوى الحاكم "المستبد العادل". وفقدان الفكر العربي قدرته على وضع يده على الواقع الفعلي للأمة العربية، كانا من الأسباب الفكرية الأخرى لعوائق التقدم الديموقراطي. وقال بعض المثقفين، إن هناك عائقا حضاريا، يحول بيننا وبين تحقيق الديموقراطية. فبُنية الفكر العربي بُنية اتباعية وليست ابتداعية، وثابتة وليست متحولة، ومتحجرة وليست مرنة، ومقيّدة وليست حرة، وأبواب الاجتهاد فيها مغلقة وليست مفتوحة. ونحن بالتالي أمة القيود والسدود، ولسنا أمة الطيور بلا حدود. والديموقراطية هي الحرية في كل مرافق الحياة. "وما نعاني من انحطاط حضاري على هذا النحو الذي نتخبط فيه إلى الآن، يحول بيننا وبين الديموقراطية". على حد قول المفكر والأكاديمي اللبناني جورج قرم في كتابه "الديموقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي" ص 84.
-3-
كذلك، فقد كانت من عوائق الاستحقاق الديموقراطي، أن كان هناك في ثمانينات القرن العشرين، بعض المفكرين الذين ما زالوا ينادون بضرورة وجود "المستبد العادل" التي أطلقها جمال الدين الأفغاني، ثم الشيخ محمد عبده في نهاية القرن التاسع عشر، رغم التجارب المريرة التي خاضتها الأمة العربية بعد ذلك الحين، والعودة للتنظير لحكم النخبة القومية المستبدة باسم الأصالة، والإبداع.
وقد نادى الباحث والناشط السياسي المصري عادل حسين، بهذه الدعوة في ندوة "أزمة الديموقراطية العربية في الوطن العربي" التي عُقدت في ليماسول في العام 1983.
أما عن دعوة "المستبد العادل" التي أطلقها الشيخان: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، فيبرر بعض المفكرين الإسلاميين أن فكرة "الاستبداد العادل"، مستوحاة من سيرة الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الذي يرون أنه استبد برأيه "العادل"، حين منع المُلكية الخاصة لسواد العراق، وجعلها مُلكا لمن سيأتي من بعده من الأجيال، وليس لجيل الفاتحين فقط. ولكن هذا ليس بـ "الاستبداد" كما نعلم، بقدر ما هو "الاسترشاد" بالعدل، حين يرى "العادل" "العدل" ولا يراه غيره، من المنتفعين وأصحاب المصالح، الذين لا رأي صحيح لهم. فيصبح "العادل" هو الراشد "المسترشد بعقله"، وليس القائد "المستبد برأيه".
وما المستبد دائما إلا طاغية من الطغاة، وظالما من الظالمين. وعلينا قراءة تاريخنا بوعي تام، وليس بطريقة القراءة البليدة في المطالعة الرشيدة.
-4-
وهناك أسباب أخرى، تعيق تطبيق الاستحقاق الديموقراطي، تعود إلى عدم احترامنا للديموقراطية، لنقص في تربيتنا السياسية. كما تعود إلى عدم إنجاز العرب للثورة العلمية. وإلى فهم الاستحقاق الديموقراطي على أنه العلاقة بين الحاكم والمحكوم فقط.
ونلاحظ أن أزمة الديموقراطية العربية الآن وفي السابق، تكمن في كيفية القبول والتعامل معها باحترام وبشكل كلي، ومتكامل، داخل الحركات نفسها. فالتربية السياسية الأولى لأعضاء هذه المؤسسات السياسية، لم تكن قائمة على أسس ديموقراطية ليبرالية تفقه أهمية الرأي الآخر، والاحتكاك مع الجماهير للتعرف على متطلباتهم الأساسية، والمتغيرة، والتعامل باحترام، ضمن الأطر المحددة مع الأحزاب الأخرى، والفئات الاجتماعية المتعددة.
-5-
لقد كان مأزق الديموقراطية العربية متأتيا من أن الثورة العلمية لم تنجز في العالم العربي. وهي لا تسير ـ على كل حال ـ في خطٍ موازٍ للثورة السكانية التي تجتاح أقطار العالم العربي. وحسب إحصاءات "اليونسكو"، فإن أكثر من ثلث ذكور العالم العربي ونصف إناثه ممن هم في سن التعليم لا يأخذون طريقهم إلى المدرسة الابتدائية أبدا. ولنذكر أن إحصاءات "اليونسكو"، تشير إلى أن الفرد الياباني ـ مثالا لا حصرا ـ يقرأ 144 ضعف ما يقرأه العربي.
ومن خلال سياسة التعليم العربي، فإن معظم العالم العربي الراهن، ما يزال ـ قياسا إلى أوروبا ـ في قرنه التاسع عشر.
بل إنه من منظور انتشار الأميّة الأبجدية، ما يزال في القرن الثامن عشر. وقد سبق للراحل الصحفي المصري أحمد بهاء الدين أن قال:
"إن العالم العربي يعيش الآن في القرون الوسطى"، في كتابه "شرعية السلطة في الوطن العربي" ص219.
وسنتابع البحث، في الأيام القادمة، إن شاء الله تعالى.