خيّل إلي وأنا أستمع إلى المناقشات والجدل حول الأوراق المقدمة من الكتاب والباحثين الذين تقاطروا في تبوك للمشاركة في ملتقى تبوك الثقافي الثاني الذي نظمه أدبي تبوك، أني أحضر جلسات الحوار الوطني الذي ينظمه "مركز الحوار الوطني" دوريا من أجل ترسيخ ثقافة الحوار على أرضية صلبة من التسامح والتثاقف والإيمان المطلق بمشروعية الاختلاف والتعدد (تعدد المذاهب والآراء وليس الزوجات!). ما حصل في تبوك كان استثنائيا.

وجاء ترجمة عملية وممارسة تلقائية لهذه الأجندة الرسمية التي سعى "مركز الحوار الوطني" لتحقيقها منذ الموافقة على إنشائه عام 1424، والتي شدد عليها الملك عبدالله وهو يبشر بها منذ أن كان وليا للعهد. كان حوارا ثقافيا وطنيا جاء على غير ما هو متوقع من فعاليات وملتقيات تقيمها الأندية الأدبية حيث التركيز على قضايا الأدب والنقد الراسخة في منهجيتها كجزء من رسالتها الأساسية وهويتها الأدبية البحتة. لكن نادي تبوك رأى أن يغرد خارج السرب حين اختار "الخطاب الثقافي" كمكون رئيس لملتقاه السنوي الذي بدأه قبيل عام ونيف وكان تحت عنوان "الثقافة والتنمية" وما أفضى إليه من محاور متعددة تكشف عن التأثير المتبادل والعلاقة التنموية التكاملية بين الثقافة، والإعلام والسياحة والتعليم والأدب. ونجح الملتقى الأول في جمع أقطاب الثقافة والإعلام والسياحة والأدب في مكان واحد ليصبوا في فنجان واحد خلاصة تجاربهم وعصارة فكرهم. وقد كانت بحق سابقة على مستوى الأندية الأدبية انتصرت للجزء المنسي من كينونتها.

وجاء ملتقى تبوك الثاني تتويجا لنجاحات الأول، وليؤصل لهوية ملتقاه السنوي الثقافية البحتة. حمل الملتقى عنوان "تحديات الخطاب الثقافي العربي" فكان تحديا فعليا للنادي وللمحاضرين والمتداخلين. جاءت الأوراق لتفجر كثيرا من القضايا وتثير كثيرا من التساؤلات حول عدد من المسلمات الاجتماعية والدينية والفكرية. وبعيدا عن برتوكولات جلسات الحوار الوطني تحاور القوم واتفقوا واختلفوا، وكأني بهم وقد تشربوا روح الحوار وأدبياته كما أسس لها مركز الحوار الوطني وعمل على بثها لتصبح ثقافة الحوار مطلبا وطنيا وسمة حضارية وأساسية للتعايش داخل المجتمع. ورغم ذلك لم يسلم الملتقى من بعض الحضور الغوغائي الذي أطفأ شره تسامح المتحدثين والقائمين على الملتقى، فكانت ردود الفعل على اتهامهم للأوراق بـ"الفساد"، وبأنها "تصم الآذان" درسا آخر من دروس الحوار تطوع "ملتقى تبوك" بتلقينهم إياه نيابة عن "مركز الحوار الوطني" الأب الروحي للحوار.

بقي أن أقول إن "الملتقى" بدأ من هناك، من قصر أمير تبوك المثقف، حيث أطلقت الشرارة الأولى للحوار بحضور المثقفات اللاتي اصطفاهن في المجلس، والمثقفين. ليكتمل تدشينه في حفل الافتتاح حين بدد الخوف من "إفرازات هذا التواصل والحوار الأسري"، وشدد على أهمية "الوسطية" لمواجهة "الغلو والتطرف".