في مقالات عدة، وعلى مدى عقد من الزمن، هو عمر هذه الصحيفة الغراء، تناولنا العناصر التي استند عليها المشروع الصهيوني. تحدثنا عن نظرية الاصطفاء ببعده الديني، المتمثل في أسطورة شعب الله المختار، وتوريث النبي إبراهيم لابنه إسحق أرض فلسطين، وبعده الدنيوي، المستند على نظرية البقاء للأفضل، وأن الأرض استحقاق للأقدر على عمارتها. وتلك هي خلاصة الحق التاريخي. أما العنصر الآخر، فكان التأكيد على "فرادة الشعب اليهودي"، وأنه بخلاف كل شعوب الأرض، عصي على الاندماج والذوبان، لقد بقي طيلة العصور، محتفظا بهويته الثقافية، ومتحديا محاولات التذويب رغم حياة المنافي. إن فرادته لا تكمن فقط في اصطفائه وتفوقه العرقي والديني، بل أيضا في نوعية الاضطهاد الذي تعرض له، وبخاصة ما جرى أثناء الحرب العالمية الثانية، في المحرقة التي عرفت بالهولوكست.

ولأن فلسطين، هي المستهدف تحويلها من وطن عاش به الفلسطينيون، لأكثر من ثلاثة آلاف عام، في سلسلة ممتدة، من غير انقطاع، إلى وطن قومي لليهود، الذي اقترح المشروع الصهيوني هجرتهم من مختلف أصقاع العالم إليها، وبالطريقة ذاتها التي سلكها الأوروبيون في قارات أمريكا الشمالية والجنوبية وأستراليا، حيث اقتضت دواعي الهجرة، وتدشين العالم الجديد، نفي السكان الأصليين، عن طريق إبادتهم، فإنها هنا أيضا، في أرض فلسطين اقتضت نفي الوجود العربي الفلسطيني برمته، إما من خلال التشريد أو ارتكاب المجازر، أو سحق الكرامة الإنسانية. وقد تحقق كل ذلك بنسب متفاوتة، منذ بداية الصراع الصهيوني، من أجل اكتساب فلسطين.

وكما في أي مشروع احتلالي، لا بد من أغطية أخلاقية، تغلف مشروع الهيمنة، عمل الصهاينة، أيضا على الحط من الفلسطينيين والعرب، وتعميم نظرة دونية تزدري ثقافاتهم ومعتقداتهم وطرائق تفكيرهم، وتشوه صورتهم، واعتبارهم برابرة يعيشون خارج التاريخ، وبعيدا عن الحضارة. إن هذه النظرة الاستعلائية هي التي تمنح مشروعية لاستهداف أرضهم والاستيلاء على ممتلكاتهم وممارسة التشريد والإبادة بحقهم.

وقد تأكد للمنظر الصهيوني، أحاد عام، أثناء زيارته لفلسطين، عام 1891م أن الصهاينة يمتهنون الفلسطينيين، ويهدرون حقوقهم، ويعاملونهم بروح العداء، وأنهم يتفاخرون بسلوكهم هذا، ويوجهون المهانة للسكان الأصليين من دون مبرر، واكتشف أيضا، أن الصهاينة يعتبرون العرب جميعا وحوشا يعيشون كالحيوانات، ولا يدركون ما يجري من حولهم.

إن الأدبيات الصهيونية، مليئة بأقبح الأوصاف بحق العرب، فالعربي في تلك الأدبيات سارق وكذاب ومنافق، ومرتش، ومحب للمال، وغير وفي بالعهد، ومغتصب للنساء، يفتقر إلى المبادئ، وتحركه غرائزه الجنسية. وهو بالإضافة إلى ذلك لا يتورع عن ممارسة العدوان.

فرواية "غبار الطرق" التي كتبها ناتان شاحم، تورد حوارا يشبه العرب بالكلاب، وأنهم إذا وجدوا فيك ارتباكا، ولا تقوم برد فعل على تحرشاتهم، يهجمون عليك، أما إذا قمت بضربهم، فإنهم يهربون كالكلاب. وفي موقع آخر من الرواية، هناك نص بأن العربي الأفضل، هو الذي لا يملك نقودا.

هذه الرؤية التي تحط من قدر العرب والفلسطينيين، ليست مقتصرة على النصوص الأدبية، بل نراها مكرسة كعقيدة، لدى المسؤولين الصهاينة. فهناك تصريحات لزعماء ليكوديين تقلدوا مناصب عليا في الكيان الغاصب، تحدد العربي الجيد، بأنه العربي الميت. وأنك إذا أردت أن تعرف حقيقة العربي، فعليك فتح رأسه.

إن هذه الأرضية الفكرية العنصرية، هي التي تمنح اليهود حق اغتصاب فلسطين، وبناء المستوطنات فيها. ومن خلالها يقدم موشيه شمير في كتابه "حياة ِإسرائيل" صورة مشرقة لدور الصهاينة في الأراضي المحتلة. فالمستوطنات الصهيونية هي مثال للتحضر والتقدم، والعيش فيها مختلف تماما عن العيش في القرى العربية، المتسمة بالتخلف. لقد هاجر اليهود إلى الصحراء فحولوها إلى واحات خضراء، ومنهم تعلم الفلسطينيون فنون الزراعة، وأدخلوهم في عصر الصناعة. ليس ذلك فحسب، بل إن احتلال فلسطين قد أدى إلى ازدهار الثقافة والصحافة والفنون والتربية، إضافة إلى ما أحدثه في مجالي الزراعة والصناعة.

ولم يكن دور السينما والمسرح في هذا الاتجاه، ليختلف عن دور أجهزة الإعلام الصهيونية الأخرى. فالعربي في السينما الإسرائيلية، هو البدوي الذي يسكن الخيام، ويركب الجمال، وينتقل من مكان إلى آخر، في سبيل الحصول على الكلأ والماء، لا يتشبث بأرض أو وطن. إن فكرة الوطن لم تتعزز لديه، بسبب تكرار الحل والترحال. إن هذا الواقع جعل من العربي، شخصا انتهازيا نفعيا، لا يتورع عن الغش والخيانة، متى ما كان ذلك يصب في مكسبه الشخصي. ولم تقتصر هذه الرؤية الوضيعة على السينما الإسرائيلية، بل تسللت إلى السينما في الدول الغربية. ولا تشذ عن ذلك سينما هوليود، التي يسيطر على أنشطتها وفعالياتها المال والعقل الصهيوني. فالحياة العربية تختزل في التركة الفلكلورية التي تمثلها قصص ألف ليلة وليلة، والزير سالم، ومصباح علاء الدين والأربعون حراميا، وشمشون ودليلة، وقمر الزمان، والسندباد البحري. والغاية هي تصوير العربي، بالطريقة ذاتها التي تم فيها تصوير الهنود الحمر في القارتين الأمريكيتين، ليسهل ذلك عملية النفي، ولتتأكد مقولة: "فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". وبذلك تتم التغطية الأخلاقية على الجرائم التي ارتكبت بحق شعب فلسطين. ولتتحقق من خلال هذه الممارسة نبوءة مؤسس الحركة الصهيونية، ثيودور هرتزل، بأن تأسيس دولة إسرائيل على أرض فلسطين، سيشكل حاجزا حضاريا بين العالم المتمدن، وبين البرابرة، وسيسهم في حماية الإنسانية من همجية العرب.

لم تتغير صورة العربي، في الذهنية الصهيونية، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، التي شهدت توقيع اتفاقيات سلام، بين الكيان الغاصب، وبعض الأنظمة العربية. فهؤلاء "المتوحشون العرب"، لا يمكن الوثوق بهم أبدا، ولا بد من إيجاد محطات إنذار مبكر، بإشراف أمريكي تنصب على المواقع التي ينسحب منها الجيش الإسرائيلي. ليس ذلك فحسب، بل ينبغي التأكد من عدم قدرة الأنظمة التي وقعت معاهدات السلام، على نقل أي سلاح ثقيل، لأراضيها التي يفترض أن لها كامل الحق السيادي عليها. وإذا كان العرب جادين حقا في السلام، فعليهم أن يتنازلوا عن جزء كبير من ثروتهم المائية. فهم ليسوا بحاجة إلى الكثير منها. وقد تحقق ذلك، لهم بشكل أو بآخر.

وأخيرا وليس آخرا، جاء مشروع الشرق الأوسط الكبير، في صيغته "الجديدة"، ليجعل من إسرائيل حجر الزاوية في نظام سياسي جديد، يؤسس في المنطقة، ينتفي فيه النظام الذي استند على الهوية العربية، والذي مثلته جامعة الدول العربية، المعضد بحقائق الجغرافيا والتاريخ، ليستعاض عنه بنظام "شرق أوسطي". وقد أريد لهذا النظام أن يستند على عناصر دخيلة وطارئة في التاريخ العربي، عناصر مرتبطة بانفراط التعددية القطبية، وهيمنة الإدارة الأمريكية على صنع القرار الأممي. وتشمل هذه العناصر، مجالات اقتصادية وسياسية وعسكرية، بما يعني افتقارها لصفات الثبات النسبي. والهدف هو تكريس ذات الرؤية العنصرية التي مارسها الصهاينة، منذ بزوغ عقيدتهم، المرتكزة على نفي الآخر، وجعل المنطقة بأسرها ملحقا للكيان الغاصب، مكرسة حالة من الاستتباع، لهذا الكيان، بما يحجب القدرة على التقدم والنهوض، والتنافس الحر، وتحقيق التنمية.