الثورة الأمريكية في الربع الأخير من القرن الثامن عشر هي اللحظة التأسيسية الكبرى للولايات المتحدة الأمريكية المعاصرة كما أن الآباء المؤسسين (جون أدامس، جورج واشنطن، الإكسندر هاملتون، توماس جيفرسون، بنجامين فرانكلين، جون جي وجيمس ميسون) هم مؤسسو هذه اللحظة حسب الرواية العامة والسائدة.

تمثل هذه اللحظة لحظة مركزية وأساسية في الوجدان الأمريكي باعتبارها لحظة الولادة. اللحظة التي تخلصت فيها البلاد من الاستعمار البريطاني وبدأت مرحلة الاستقلال، اللحظة التي بدأت فيها نواة أكبر دول العالم اليوم وجمعت شتات إحدى وخمسين ولاية. لا تزال هذه اللحظة محط اهتمام المفكرين الأمريكيين باعتبارها لحظة لا تزال في حاجة للفهم، في حاجة لتفسيرات وتحليلات أكثر. الرواية السائدة وربما الرسمية هي واحدة ضمن احتمالات متعددة لا بد من محاولة الوصول لها. على هذه اللحظة تم تطبيق عدد كبير من المناهج الفلسفية والتاريخية. المهم في النهاية أن هذه اللحظة لم تتجمد وتغلق أبوابها، بل لا تزال مفتوحة مما يعني فتح احتمالات الحياة المعاصرة باعتبار أن لحظة التأسيس ليست لحظة في الماضي فقط، بل هي روح لا تزال تحرك الحاضر وتؤثر في مجرياته.

في الأسابيع الماضية تحدثنا عن هوارد زن ، المؤرخ الأمريكي الناقد بقوة. زن هو مؤلف كتاب "تاريخ الناس في أمريكا" الكتاب الذي أعاد فيه كتابة التاريخ الأمريكي من منظوره الخاص. منظور يساري يوجهه اهتمامه بالطبقات المسحوقة ويقف بارتياب تجاه الروايات الرسمية على طول التاريخ. تتبع زن في كتابه أحوال الناس العاديين في لحظات الثورة ونقل الكثير من التفاصيل عن أحوال الرقيق والعمال في تلك اللحظات العصيبة من التاريخ الأمريكي. يفتح زن ذلك الملف اليوم لأن القصة لم تنته بعد ولا تزال لحظة الثورة تلهم الضمير الأمريكي. يريد زن أن يعيد بناء الصورة من جديد لكي لا يتورط الناس في رواية واحدة ستتحول مع الوقت إلى عقبة في طريق التقدم والتطور. كما هي كثير من الأمم التي لا تزال تدور حول رواية واحدة أغلقت عليها الطريق وسببت لها شعورا بالاصطدام مع المستقبل.

في الشهر الماضي صدر كتاب "الثوار: تاريخ جديد لتشكيل أمريكا" لـ Jack Rakove المؤرخ والأستاذ بجامعة ستانفورد. في هذا الكتاب يطرح المؤلف عددا من الإشكاليات التاريخية والفكرية على الثورة والثوار. بداية من بحث العوامل التي دعت الثوار لرفض الاستعمار البريطاني والبحث عن الاستقلال. من الملاحظ هنا أن الاستعمار البريطاني لم يكن ينظر له كثيرا على أنه استعمار أجنبي فالنخب الأمريكية في ذلك الوقت كانت في الغالب من أصول إنجليزية. كما أن فكرة الدولة الجمهورية لم تكن على أرض الواقع في ذلك الوقت (الجمهورية الأمريكية سبقت نظيرتها الفرنسية) مما يعني أن الثورة والاستقلال وكتابة وثيقة الاستقلال والدستور هي لحظات تشكلت مع الوقت وبظروف متعددة ولعبت الصدف دورا مهما في الوصول إلى النتيجة النهائية. يصرّ المؤلف على أن الثورة صنعت الثوار كما أن الثوار صنعوا الثورة ، الثوار بعد الثورة كائنات مختلفة. ما يقلق المؤلف هو أن كل فصول الثورة تم ربطها بالآباء المؤسسين، مما أخرج من الصورة فاعلين مهمين وأساسيين لن تكتمل صورة الثورة دون إدراجهم من جديد من أمثال Daniel Shays المزارع من ماساتشوستس الذي تسببت مظاهراته ضد الضرائب إلى عقد الاجتماعات التاريخية لكتابة الدستور الأمريكي.

في الوسط المعرفي الأمريكي لا تشعر بأن الثورة الأمريكية لحظة بعيدة زمنيا أو حدث طواه التاريخ أو أنه تحول إلى رواية مقدسة لا يمكن المساس بها، على العكس لا يزال هذا الحدث يمثل سؤالا مفتوحا للمفكرين والمؤرخين. وثيقة الاستقلال التي كتبها الفيلسوف والسياسي توماس جيفرسون سنة 1776 والدستور الأمريكي الذي أقر في 1787 كلها لحظات لا تزال محتاجة للتفسير الجديد والرؤية المختلفة. هنا نحن في لب الثقافة النقدية التي ترفض توقف المعرفة كما ترفض الإجابات النهائية والثابتة، الثقافة التي تعتقد أن الجهل هو الأساس وأن المعرفة هي عملية يجب تحقيقها باستمرار، الجهل يحيط بالإنسان وتجب مكافحته بطريق ممتد عبر الأجيال المتتالية. أخطر أدوات الجهل هي الادعاء بأننا قد وصلنا للمعرفة النهائية أو أننا نملك الحقيقة المطلقة وما علينا سوى إعداد نسخ متتالية من البشر تتولى ترديد هذه الحقيقة. الجهل قائم على الادعاءات والمقولات التي لا برهان عليها. في بيئات الجهل تكثر الإجابات المتوارثة عبر الإجابات.

الإجابات التي تورّث من جيل لجيل دون أن تمر على مصفاة النقد والتفكير. دون أن تمر بالعقول بقدر ما هي معلومات مخزّنة في الذاكرة الجماعية. في بيئات الجهل هناك آلية لمكافحة التفكير والسؤال. ولكي لا يكون هذا الكلام بدون دليل ليس علينا سوى متابعة ما يتعرض له المفكرون في بيئات الجهل العربية من ضغوطات هائلة، وصلت مرات عديدة للقتل، حين يحاولون إعمال العقل على الإجابات المتوارثة، العربي الوحيد الحاصل على جائزة نوبل ويعيش في بيئة عربية، نجيب محفوظ، تم طعنه في رقبته وهو في آخر عمره من قبل أحد حراس الجهل ليقضي بقية عمره مريضا عاجزا وكأنها مكافأته قبل الموت. أحمد زويل العربي الآخر يعيش في الغرب ويستمتع بقيمة نجاحه. من علامات ثقافات الجهل الكبرى منع التفكير من الدخول إلى مساحات كبيرة في الثقافة.