الصورة التي ترسمها حنة أرندت وعرضناها في المقال السابق مهمة جدا لإنضاج عملية التفكير في الحرية. أرندت ـ كما في المقال الماضي ـ تفهم النشاط البشري في عالمين أساسيين، عالم الضرورة وعالم الحرية. عالم الضرورة هو عالم استجابة الإنسان للقوانين التي لم يخترها ولا حيلة له في تجاوزها، وليس أمامه إلا التعامل معها. هذه القوانين يمكن وضعها في إطارين جوهريين، إطار الطبيعة وإطار الاجتماع. قوانين الطبيعة الفيزيائية والحيوية خارجة عن إرادة الإنسان. قوانين الفيزياء بالضرورة تحد من حرية الإنسان وتقيد حريته، قوانين الجاذبية والحركة هي قوانين خارج دائرة الفعل والإرادة البشرية. بالتأكيد البشرية قد استثمرت معرفتها المتقدمة يوما بعد يوم لإدراك هذه القوانين واستثمارها للأغراض البشرية، ولكن تعديل هذه القوانين لم يكن يوما خيارا واقعيا أمام الإنسان. القانون الحيوي أيضا خارج الإرادة. نمو الجسد والحياة في الطبيعة ينتميان لعالم الضرورة لا عالم الحرية. الإنسان لا يتحكم في القوانين التي ينمو بها جسده أو تنمو بها الكائنات الأخرى. كل ما يمكنه هو التعرف أكثر على هذه القوانين الطبيعة واستثمارها لأغراضه الخاصة، ولكن تبديل هذه القوانين لم يكن خيارا واقعيا أمام الناس.
على المستوى الاجتماعي أيضا، وجود بشر آخرين يشاركون الإنسان المكان والزمان هو داخل دائرة عالم الضرورة لا عالم الحرية. وجود الآخرين ومشاركتهم لنا المكان والزمان هو أمر لا خيار لنا فيه. كل ما نملك هو العمل على التعامل مع هذه الحقيقة. وجود الفرد خارج الدائرة الاجتماعية بالكامل لم يتحقق إلا في القصص الخيالية كقصص حيّ بن يقظان وشبيهاتها. أما على أرض الواقع فإن حرية الإنسان كانت دائما محدودة بعالم ضرورة اجتماعي يتمثل في وجود بشر آخرين يشاركون الفرد دائما الزمان والمكان. هذه الصورة مهمة جدا لفهم عالم الحرية الذي يتحقق تحديدا داخل هذه الشروط. الحرية مفهومة داخل قوانين الطبيعة وداخل قوانين الاجتماع وهي الحرية الواقعية. أعني بذلك الحرية القابلة للدخول في المعادلة الاجتماعية والسياسية، التي يمكن أن تكون جزءا من قانون يستجيب لواقعة الاجتماع البشري.
العلاقة بين عالم الضرورة وعالم الحرية علاقة مثيرة إثارة الحرية ذاتها. بمعنى أن الحرية لا تتحقق إلا من خلال عالم الضرورة، وهي في الوقت ذاته تجاوز لهذا العالم. بمعنى أن وجود الإنسان داخل عالم الضرورة هو الشرط الأول لإمكان تحقق الحرية. أو بعبارة أخرى وجود الإنسان في العالم وداخل شبكة العلاقات مع العالم هو الفرضية الأولى لإمكان عالم الحرية. يمكن القول أيضا إن الوعي بعالم الضرورة هو شرط لجعل عالم الحرية ممكنا. الحرية في الأخير هي خروج وانفتاح واحتمال جديد. كل هذا يتطلب الدخول والوعي بالانغلاق والوعي بمحدودية الاحتمالات القديمة المتوفرة.
وجود الإنسان في عالم الضرورة كما قلنا هو واقعة لا خيار أمامها، ولكن الوعي بهذه الواقعة هو أمر خاضع للإرادة الإنسانية ذاتها. يستطيع الإنسان أن يفكر في الحرية خارج معادلة الواقع التي تحيط به وغالبا ما يبقى هذا التفكير في حالة انفصال حادة عن إمكان الفعل. في المقابل قد ينغمس الفرد في عالم الضرورة ويغيب عنه أفق وإمكان الحرية بالكامل. الحرية بهذا هي مغادرة للواقع إلى واقع جديد. الواقع الجديد هو حالة مفارقة لحالة الارتهان لصورة محددة للواقع. عالم الضرورة الذي تحدثنا عنه في بداية المقال لا يعني أن العالم والإنسان أمام إمكان وخيار واحد، بقدر ما هو أمام كمية هائلة من الخيارات يبقى أغلبها خارج الإدراك اللحظي والمباشر. المعادلة التي تضع شروطها قوانين الفيزياء والاجتماع هي قوانين تضع التجربة الإنسانية أمام إمكانات هائلة للفعل والتجاوز. الإنسان وهو أحد عوامل هذه المعادلة الجوهرية يملك قدرة أثبتها التاريخ على الاختلاف والتنوع والتجديد. هذه القدرة أخذت كثيرا تعبيرها في قدرة الإنسان على التفكير وإدراك ما هو ضروري وما هو ممكن. هذا التفكير لديه أزمة مستمرة وحادة مع عالم الضرورة خصوصا عالم الضرورة الاصطناعي. يمكن القول إن حركة التحرر البشرية كانت في المجمل عملية شاقة ومكلفة لتمييز عالم الضرورة الحقيقي من عالم الضرورة الاصطناعي. يولد الفرد عادة في عالم تتكاثر فيه القيود والحدود التي يتم إخباره أنها غير قابلة للاختراق. تبدأ عملية التحرر بالشك تحديدا في هذه الدعوى. ما هو الضروري فعلا؟ يبدو أن هذا هو السؤال الجوهري لعلمية التحرر البشرية. التاريخ يثبت أن ما كان الكثير من الناس يعتقدون أنه عالم من الضرورات التي لا يمكن تجاوزها، لم يكن سوى عالم من الضرورات المصطنعة وأنها لم تكن إلا خيارا ضمن خيارات.
إدراك عالم الحرية من عالم الضرورة هو برأيي جوهر عملية التحرر الحقيقية. عالم التحرر الوهمي يتم من خلال التغافل عن حقيقية عالم الضرورة ومحدودية القدرة الإنسانية في الخروج عن هذا العالم، وفي المقابل هناك الاستسلام لعالم الضرورة وإعطاؤه مساحة تغطي كل الوجود البشري. في المقابل فإن مواجهة دعاوى عالم الضرورة واللاممكن والمستحيل والنهائي واختبارها باستمرار والقلق من وجودها هو ما قد أثبت ـ وما يزال يثبت ـ أن عالم الضرورة يتمدد كثيرا ليغطي مساحات هائلة تنتمي لعالم الحرية والخيار الإنساني. الاستبداد العالمي صورة لهذا التمدد، ثقافة الاستهلاك المادية المفرطة صورة لهذا التمدد أيضا. لا غرابة إذن أن نفهم الحرية على أنها التزام، التزام لوعي الواقع والتزام بتجاوزه أيضا. عالم الضرورة والحرية في مجمل الصورة هما عالم الإنسان، ولا أظنه يمكن إدراك هذا العالم دون إدراك هذه الثنائية الجدلية بين ما قد وُجدنا فيه وبين ما نسعى لإيجاده.