"صبح صباح الخير من غير ما يتكلم.. ولما غنى الطير ضحك لنا وسلّم.. وردك يا زارع الورد ..إلخ"، صدحت أغنية طلال مداح في رأسي بصوت أمي ـ شفاها الرحمن ـ وأنا أعبر الزقاق الضيق بجوار بيتنا القديم أو ما تبقى من أطلال بيتنا في حارة الهنداوية، لا أعرف كيف اخترقني صوتها، وهي تدندن لي في سنواتي الأولى قبل دخولي المدرسة، طابعة على "خدودي" قبلاتها بحنان، فيما صوت الأرض ينبعث من المذياع الخشبي في بيتنا الصغير. كنتُ أقف على ما تبقى من أطلال "الهنداوية" بعد أن باتت غريبة علي، أو ربما أصبحت الغريبة فيها الآن بعد أن تغيرت معالمها فيما تجددت بعض مبانيها، ولكن داخل الحارة ما تزال رائحة "خالة حمامة" في ذاك الزقاق ـ رحمها الله ـ وهي تمشي بعربتها الخشبية دون عباءة، مكتفية بمسفعها وثوبها الطويل، تبيع لنا ألذ وأطعم حلاوة "حُمرة" و"آيسكريم" تذوقتهما في حياتي، كنت أول ما أسمع صوتها أركض إلى أمي أقول: "أبغى ريال.. خالة حمامة جنب البيت".
هل أتحدث عن حارة "الهنداوية"؟! حتما لن يكون ما أكتبه أفضل من أستاذنا محمد صادق دياب ـ رحمه الله ـ ابنها البار الذي أحبّها وأحب ناسها في ظلّ عقوق بعض أبنائها وبناتها ممن هاجروا تجاه الشمال، ولطالما أخذنا "أبو غنوة" عبر زاويته الخضراء إليها وذكريات البسطاء فيها.
"الهنداوية" أنجبت فنان العرب محمد عبده، والفنان علي عبدالكريم، والموسيقيين سامي إحسان، وعمر كدرس، ورياضيين كأحمد عيد، وسعيد غراب، وعبدالله حجازي، وغازي ناصر، وعبدالمجيد وآخرين، وأخرجت صحفيين كبارا كهاشم عبده هاشم رئيس تحرير "عكاظ"، والإعلامي القدير الدكتور بدر كريم، وأيضا أدباء مبدعين بارزين كروائي "بوكر" عبده خال، والشاعرة زينب غاصب، والقاصة الدكتورة هناء حجازي، وأيضا أطباء وأكاديميين ومهندسين وآخرين.
كنتُ أتجول وأتذكر هؤلاء وأتأمل وقع خطواتي الصغيرة مع حكايات أبي ـ حفظه الله ـ التي يقصّها لي كل صباح كي يبني أحلامي، وهو يعبر بي الحارة باتجاه "شارع الذهب" ليوصلني إلى المدرسة.. كنتُ أمرّ وتمرّ أمامي أطيافهم في تلك الأزقة التي استعصى بعضها على الأسفلت آنذاك، وأسمع أصواتهم في الذاكرة "بسبوسة.. يا بسبوسة" و"يغموووش"، فيما يقف طيف بائع عصير التوت، كي أسمع معه صوت "منفوش.. هيا منفوش". يا الله على هذه الحارة العتيقة وأحلامنا.. ولا أنسى صوت "المنجد" الذي كان يحمل عدته وعصاه لينجد قطن المفارش حتى تريح عظام النائمين! أتذكر مرة أن أمي طلبت أن أناديه، وكنت على ضآلتي في الخامسة، أجلس القرفصاء وآكل حلاوة خالة حمامة "الحُمرة" وأراقبه منبهرة بحركة عصاه السريعة لينفش القطن.. لقد طافت بي ذكريات زمنها الجميل الذي باتت اليوم أطلالا، وخرجتُ من رحمها، ولم يخرج مني صوت أمي مع صوت الأرض يدندن: "وردك يميل ويقول مين في الجمال قدي".