كان يوم الأربعاء الفائت يوماً مميزاً للسعوديين والسعوديات في بريطانيا، فقد أقيم فيه حفل التخرج الأول لبرنامج خادم الحرمين الشريفين في المملكة المتحدة وإيرلندا (2009/2010) في مركز الإيكسل بشرق لندن، وإن كان الحفل قد شمل طلبة هذا البرنامج وغيرهم من مبتعثي الجامعات والمؤسسات الحكومية الأخرى، أو مبتعثي الوزارة السابقين وهؤلاء كانوا يمثلون خريجي مرحلة الدكتوراة على وجه الخصوص.
ووسط هذه الاحتفالية الجميلة، لفت انتباهي أمران على وجه التحديد وجدت أنهما يستحقان الذكر والتحليل. الأمر الأول يتعلق بمعرض الجامعات السعودية المرافق للاحتفال، حيث حضر مندوبو كل الجامعات السعودية العريقة والحديثة في محاولة لاستقطاب الخريجيين والخريجات للعمل في السلك الأكاديمي، وكنت ترى جامعة الملك سعود إلى جانب جامعة الملك فيصل، وجامعة الملك عبدالعزيز قريباً من جامعة الملك فهد، ثم جامعة أم القرى وجامعة طيبة وجامعة الإمام محمد بن سعود وجامعة الجوف وجامعة المجمعة وجامعة شقراء وجامعة الملك خالد وغيرها من الجامعات التي نتمنى لها كل توفيق. ولن يكون من الصعب وأنت تراهم جنباً إلى جنب من أن تقرأ في ركن كل جامعة الفرق الكبير في الإمكانيات.. وبدرجة أقل الفرق في الإنجازات.
وللأسف فإن الجامعة التي تحمل اسم أعز رجل على قلب كل سعودي اليوم وهي جامعة الملك عبدالله قد غابت عن المشهد كلياً. ولم أشاهد شخصياً ركناً لجامعة الأميرة نورة.. ولا أعرف هل السبب في أنه ليس لديها مندوبون رجال ولا يجوز إرسال نساء؟ وأنا أطرح هذا السؤال على بقية الجامعات أيضاً إذ لم يكن هناك نساء لتمثيل الجامعات الأخرى.. وبالتالي اضطرت الخريجيات للحديث مع المندوبين الرجال.
أيضاً غابت الجامعات الأهلية عن بكرة أبيها، رغم أن هذه الجامعات تتسول ليل نهار أساتذة ومعلمين من شتى بقاع المعمورة وبمميزات خيالية، وبالرغم من أن هذه الجامعات تتلقى دعماً حكومياً كبيراً، فلماذا لم تفكر في الحضور والحديث مع الخريجين والخريجيات لعلها تجد من بينهم ضالتها ويكفونها عناء الرواتب الفلكية وتذاكر السفر ومعضلة التأشيرات؟ عبثاً أحاول أن أفهم عقلية القطاع الخاص السعودي.
أما الأمر الثاني الذي لفت انتباهي فهو أنه على قدر سعادة الجميع وتفاؤلهم وأبناء الوطن يحصدون أعلى الدرجات والشهادات، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة نجاح الجميع في معركة العقليات، فهناك من سافر واغترب سنوات ثم عاد بشهادة وحسب.. ويصبح الأمر أكثر إيلاماً حين تكون هذه الشهادة هي شهادة الدكتوراة! فقد كنا فقط ست خريجات حاضرات ممن حصلن على هذه الدرجة الرفيعة وسط أكثر من أربعين خريجاً حاضراً تقريباً، ولسبب ما فإن هناك من اعتقد أن على الأقلية لزوم مكانها في الخلف.. رغم آن هذه الأقلية هي من القوارير في بلد ثقافته (ليدز فيرست) أو النساء أولاً!
إحدى الأخوات لم تقتنع بالأمر فذهبت تتحدث مع منسقة الحفل وهي سيدة إنجليزية.. وبعد مداولات تخللتها اعتراضات عدد قليل من الدكاتره، وافقت المنسقة فأصبحنا في المقدمة خلف ثلاثة طلبة أحدهم قابض على لوحة (الدكتوراة) والاثنان الآخران رفضا التراجع للخلف. وبينما الجميع ينتظر صافرة انطلاق المسيرة.. زاد عدد المعترضين وشيئاً فشيئاً بدأت الأعداد أمامنا تتزايد والهمهمات من خلفنا تتعالى.. شعرت فعلاً بالخجل والسيدة الإنجليزية تنظر لنا بدهشة وهي تشاهد "صراع المراكز" بين صفوة المتعلمين والمتعلمات! شخصياً تذكرت مناوشاتنا في طابور مدرستي الابتدائية.
إحدى صديقاتي سألتني لاحقاً لم لم يتم الترتيب وفق الأحرف الأبجدية لأسمائنا بدلاً من هذه المسرحية الكوميدية - التراجيدية؟ قلت لها أتوقع والله أعلم أن السبب هو موضوع الاختلاط.. فكما تعرفين - هداك الله وأصلح بالك- فالاختلاط جائز في السعودية وحرام خارجها.
دكتورة أخرى كانت غاضبة بشدة..قالت لي لو كنا إنجليزيات لرأيناهم يمسكون لنا الباب ويعاملوننا بكل لباقة الدنيا.. لكننا سعوديات ولهذا فلنا الله! ابتسمت لقولها وأنا أتخيل زميلنا "العنيد" في الأمام يترك مكانه طائعاً مختاراً لجميلة شقراء! خريجتان أخريان كانتا ترددان منذ البداية بأنه (خلاص خلونا نرجع ورا!)، وقد غرقت في لحظة تأمل وأنا أشاهد ردة فعل كل واحدة منا تجاه الموقف الذي وضعنا فيه معاً.. فربما كان هناك تشابه بيننا في الظروف وتكافؤ في الشهادات.. لكن طبيعة كل واحدة وخلفيتها الثقافية وشخصيتها كان لها الأثر الأكبر في تشكيل ردة الفعل هذه.
ولأن الوقت كان يمضي سريعاً، والمسيرة ستبدأ في أية لحظة، فقد ناقشت مع زميلتي المتحمسة (وقائدة حركة النضال السلمي هذه!) فكرة أن نترك لهم المكان بدلاً من هذا المنظر العجيب الذي عليه طابورنا (الدكتوراة) مقارنة بالطوابير الأخرى وذلك قبل دقائق من بدء المسيرة وحتى لا نفقد بهجة الفرح، فقدر المرأة دائماً في بلادنا أن " تكبر" رأسها وتدع الرجل يفرح بدور المنتصر، فكان ردها: "بل دعينا هكذا يا دكتورة مرام فطابورنا هذا أصدق صورة عن واقعنا الحقيقي بعيداً عن كل زيف..أقلية صغيرة في المقدمة تتشبث بامتيازاتها وتدفعنا للخلف.. ونحن النسوة المناضلات نحاول أن نجد مكاناً لنا في الأمام بمجهودنا ومؤهلاتنا.. وأغلبية صامتة في الخلف لا تعارضنا لكنها لا تدعمنا" وكم بدا كلامها منطقياً ووصفها مدهشاً في صدقه! وتحرك الطابور وتحركنا معه.. لم نحصل على ما أردناه تماماً هذه المرة لكننا لم نتراجع إلى الخلف كما أرادونا أن نفعل..فذلك الزمان قد ولى.. وحركتنا ستكون من الآن فصاعداً إلى الأمام وإلى الأعلى.