كي أستعد نفسيا لكتابة مقالة هذا الأسبوع.. وكي أدخل في عالم الأحرف، ليس أحب على قلبي من أن أستقي من الذاكرة دمشق نزار.. ومن الوجدان صوت فيروز، ومن الروح قصص أحبّ دمشقية إلى قلبي.. جدتي، يقول نزار في قصيدته "موال دمشقي":
"يا مَنْ على ورقِ الصّفصَاف يكتبُني شعراً... وينقشُني في الأرضِ أيلولا.. يا مَنْ يعيدُ كراريسي.. ومدرسـتي.. والقمح، واللّوزَ، والزُّرقَ المواويلا.. يا شـامُ إنْ كنتُ أُخفـي ما أُكابِـدُهُ.. فأجمَـلُ الحبِّ حـبٌّ ـ بعدَ ما قيلا"، وتقول فيروز في أغنيتها "بيتك يا ستي الختيارة":
"يمكن عم تسقي جنينتها عتلال الشمس وتحكي .. لصبية غيري حكايتها وعم تذكرني وتبكي .. ولمن حاكيتيني بكيت وذكرتيني .. بستي والدوارة.. يا ستي الختيارة".
كان الدرس عن مصادر التعلم، وذكرت كمثال الجدات، ولكن كم كانت صدمتي وكم تألمت حينما سألت طالباتي عن جداتهن، فرددن عليّ بعلامات استفهام على وجوههن! وسألت: إلى من تلجأن حينما تردن معلومة عن كيفية غسل بقعة ما، أو علاج بسيط لمغص، أو حتى التزين؟ أجابت إحداهن: نستعين بالعم "جوجل"! هنيئا لك يا عم "جوجل".. لقد استوليت على أهم وأعظم مكانة في حياتنا!
ماذا جرى لنا، كيف سمحنا ببناء كل هذه المساحات بين كنوز الماضي وثروات المستقبل؟! حولناها إلى ثروات مزيفة تلمع من الخارج فارغة من الداخل.. طبول فارغة تطرق بيد كل عازف مزيف! علم بدون ثقافة ناقص، علم بدون أخلاق ودين ناقص، علم بدون انتماء ناقص، علم بدون هوية.. ناقص، ناقص، ناقص! وهنا أتحدث عن ثقافة الأجداد، عن أخلاقهم، عن هويتهم وتعلقهم بالأرض، عن حبهم الفطري لله سبحانه ورسوله عليه الصلاة والسلام، لقد سرقنا مستقبل أبنائنا بحرمانهم من الماضي! سعدنا بالتكنولوجيا فتملكتنا قلبا وقالبا، فضلنا التواصل عبر الأثير، وبإرادتنا وعن كل طيب خاطر سلمنا حياتنا لمن ساهم في اغتيال جيل.. لمن حوله بأيدي الغير إلى أسير!
أذهب إلى الأفراح أجد أن حضورهن كان تكملة لمظهر اجتماعي، يُتركن على الكراسي دون تواصل إلا ممن رحم ربي! في المشافي نجد الكثيرات منهن مع الخادمات يراجعن الأطباء، وفي مجالس الأسرة لم يعد لهن تلك المكانة من التقدير.. من الإصغاء والحوار! والآن وأنا أحدثكم عن ذكرياتي مع جدتي، أريد من كل واحد أن يبحث عن جدته إن كانت حية ترزق بحمد الرحمن ليجالسها ولو قليلا، صدقوني ستجدون ما هو أغلى من كنوز الدنيا، ولمن رحلت جدته فليبحث في طيات ذاكرته عن قصة، عن حادثة، عن موقف جميل كان له معها وليترحم عليها.
من ذاكرتي عن جدتي رحمها الله أنها في يوم من الأيام كانت تقلب تربة شتلة ياسمين في شرفتها، فنادتني وقالت: "امسكي التربة بيديك يا ستي"، فتساءلت كعادتي: "لماذا يا ستي"؟! أجابت بحب حازم لأن حبها كان حازما: ستشعرين بحياة الأرض، قلبت التربة في يدي ونظرت إليها طالبة المزيد من المعلومات، فابتسمت وقالت: "يا ستي الناس متل التربة منها الصالح ومنها الطالح، منها الذي تدب فيه الحياة ومنه الميت لا رجاء فيه، فابحثي عن التربة الصالحة... ابحثي عن الحياة". وفي ليلة شتاء بارد كنت أجلس في حضنها وهي تحمص الخبز على المدفأة، قالت: "يا ستي.. ابنك على ما تربيه وزوجك على ما تعوديه، فقلت لها: وأين هو زوجي الآن وكيف سأعرفه؟ أجابت ستعرفينه حين يشاء الله لك ذلك، يا ستي.. في السماء قنديل يشع بداخله اسمه واسمك، فنظرت إلى السماء خارج النافذة وقلت: لا أرى شيئا! فأجابت: الله وحين يشاء سترينه أيضا".
يا إلهي كم أنا نادمة على كل ما سببته لك من ألم وعذاب في تربيتي! كم كنت تحاولين جاهدة أن تعلميني كيف أكون أنثى، وأنا التي كنت أواجهك بإصراري على أن أكون كأخي.. مشاغبة كنت؟ نعم، مشاكسة كنت؟ نعم، لكن قلبك احتواني وتفهم.. وبحبك حركت في داخلي نبض أنوثتي.. جدتي، يا أرضي، ويا سمائي، ويا كنزي.. يا ذهب عناقيد ذاكرتي، يا أيها الحضن الذي اختزل الدنيا وزرعها بين أضلعي زعترا وزيتونا، يا من رسم في قلبي زهر الياسمين والليمون.. يا من علمني كيف أفرق بين أصالة تراب الأرض.. وشموخ الصنوبر وكرم ظلال الزيزفون، يا من عصر التاريخ في دواتي ذاكرةً فنثره قلمي بأرق العبارات وأجمل التعابيرَ.. يا أجمل عطر كان ـ ولم يزل ـ حاضرا في خاطري حيًّا شذيَّا، يا أيها الزائر من الماضي يتخلل مساحات عمري فتزهر أيامي وتضيء لياليَّ.. يا ساكنة الوجدان، هل تعلمين أن طفلتك ما زالت تبحث عمن يهدهدها للنوم بقصة.. بحكاية.. بترنيمة شرقية.. حين أتذكرك تسيل أدمعي على ابتسامة ثغر من دونك كان كُتب شقيا، اللهم لك الحمد على نعمة تراث جسدته جدة في أعماق روحٍ باقيات من مواويل دمشقية.