لا يزال صديقي المثقف يناضل لتسويق نظرية كمال الصليبي "التوراة جاءت من جزيرة العرب"، ويؤكد أنها قطعية الدلالة قطعية الثبوت، رغم أن المنهج غير التاريخي الذي التزمه الصليبي ينسف كل ثوابته التاريخية، لما فيها من المزالق والمتاهات، وتعسف المقابلات الكلامية والقلب والاستبدال والإسقاط، مما جعل النظرية تهتز تحت عبء المعلومات المتناقضة والتخرصات البالية والعجز المتهافت، فالرجل أوغل في جوف التاريخ فخلط المأتم بالعرس، وخرج بتوليفات معانية وتفسيرات عشوائية وتوليدات عبثية، لا تتساوق مع معطيات العقل ومنطق التاريخ الإنساني، فمن يثق في مؤرخ يردد عبارات احتمالية كقوله: "ربما، لعل، من المحتمل، يبدو، من الممكن، الأرجح، برأيي، اجتهادي الشخصي، يمكننا أن نفترض" وغيرها من التمحلات والعدوان على الثوابت العلمية في البحث كما يقول الدكتور "فضل العماري"؛ حيث راح الصليبي يتعامل مع كل قضايا التوراة على أنها قضايا تاريخية حقيقية، دون اعتبار للتحريف فاعتمد المرويات الشفوية على أنها مصادر موثوقة كمقابلة أسماء الأماكن "فهي ضرب من علم الآثار بل تتفوق عليه أحياناً، فالاكتشافات الأثرية اكتشافات خرساء ـ كما يقول ـ في حين أن أسماء الأماكن ناطقة بل تخبرنا بكيفية نطقها الفعلي وبمعناها وباللغة أو نوع اللغة التي انبثقت عنها"، ولكن المؤرخ فراس السواح الباحث في الميثولوجيا وتاريخ الديانات الشرقية فتت نظرية الصليبي وفضح الجغرافيا التاريخية للتوارة التي اعتمد عليها وأظهر المعضلة التاريخية التي وقع في شباكها الصليبي، وفجاجة وسلبيات منهجه التطابقي في الأسماء، الذي يتنافى مع نصوص التوراة التي اعتمد عليها باعتبارها مضموناً تاريخياً ثابتاً، وكنموذج لتلك التهويمات يقول الصليبي: بنو يدعيا "يدعيه" موطنهم في وادعه في وادي نجران فيرد عليه السواح: لم يرد في التوراة اسم يدعيا أو يدعيه باعتباره موقعاً، بل ورد كاسم علم لرئيس فرقة الكهنة الثانية، "بنو إيمير" وموطنهم منطقة اليمامة فيقول له السواح: لم يرد موقع بهذا الاسم في التوراة، بل ورد كاسم علم لرئيس فرقة الكهنة السادسة عشرة أيام الملك داود "بنو رصين" موطنهم جيزان أو رجال ألمع فيقول له السواح: هو اسم علم آرامي يسمى به أحد ملوك دمشق، وهكذا يواصل السواح فضح تلك النظرية المتهالكة لجميع الأسماء، مؤكداً أن المواقع التي عثر عليها لم ترد في التوراة بتاتاً، ولم تجر الإشارة إلى أي منها كمواقع ليهوذا أو إسرائيل، بل تعدى ذلك إلى ابتكار أسماء مواقع غير موجودة أصلاً في التوراة.

وأخيراً؛ كم أعجبني قول الصليبي: إن مصر هي قرية "المصرمة" لأنها تحاذي قريتي "الملاحة" في سروات عسير ولكني بحثت عن النيل فلم أجده، وفتشت عن الأهرام فلم أعثر عليها.