-1-
الديمقراطية التي يبحث عنها "الربيع العربي"، نقيض الطغيان وترياقه. ولكن بدون ثقافة الديمقراطية، فإن الشكلانية الديمقراطية قد لا تكون حاملة معها إلا لسُمِّ الطغيان، وحصراً منه طغيان العدد، كما يقول المفكر السوري/الفرنسي جورج طرابيشي في كتابه (في ثقافة الديمقراطية ، ص 10).
وهناك فريق من المفكرين العرب المعاصرين شدد، على أن الديمقراطية عبارة عن توازن خلاّق عادل بين الفرد والمجتمع. كما أنها تكامل لتعامل الناس والمجتمع من أجل البناء. وأن الديمقراطية تعني قيام التوازن الخلاّق العادل بين الفرد والمجتمع، بحيث تنتفي إمكانية طغيان مصلحة فرد أو مجموعة أفراد على المجتمع كـكل، كما حصل في المجتمعات الرأسمالية. وبقدر ما ينتفي فيه أيضاً تحوّل الفرد إلى مجرد تُرسٍ في آلة المجتمع الضخمة، فتنمِّي لديه روح المبادرة والإبداع، كما حصل أحياناً في بعض المجتمعات. وأن الديمقراطية جزء فقط من تصور متكامل لأساليب عمل وتعامل بين الناس والمجتمع، من أجل تحقيق بناء المجتمع. ولا يمكن عزل التصور الديمقراطي بعيداً من فلسفة الحكم والرؤية للمجتمع، وما يجب أن يحققه.
-2-
وهناك فريق من المفكرين العرب المعاصرين جاء بتعريف بسيط وواضح ومباشر للديمقراطية. وقال إن الديمقراطية الحديثة نيابية؛ أي تنوب فيها النخبة السياسية عن الشعب الذي ينتخبها مرة كل أربع أو خمس سنوات، ويدعها تُسيّر الشأن العام. الشعب لا يحكم في الديمقراطية الحديثة، ولا يُشرّع القوانين، ولا يضع القرار. لكن النخبة السياسية لا تستطيع أن تفلت من رقابته، ورقابته ليست فقط يوم الانتخابات، بل إن تطور تكنولوجيا الاتصالات أعطاها أيضاً أشكالا أخرى جديدة. وهكذا، فلا يكفي أن تكون النخبة السياسية على صواب، بل عليها فضلا عن ذلك أن تقنع ناخبيها وأكبر عدد ممكن من عامة الناس، بأنها على صواب.
فالصحة تاج لا يراه إلا المرضى على رؤوس الأصحاء.
والديمقراطية بالضبط كالصحة تاج لا يراه إلا ضحايا الاستبداد على رؤوس شعوب البلدان الديمقراطية. هؤلاء لا يكادون يرون فيها إلا نقاءها، لكنهم حتى الآن على الأقل ليسوا مستعدين للتفريط فيها.
-3-
وفي واقع الأمر، فإن الديمقراطية كالحداثة، مشروع لا يكتمل. فهي مسار تدريجي. وفي مسقط رأسها، في الغرب، لم تولد كاملة - رغم تأكيد بعض المثقفين الغربيين، بأنهم يعيشون عصر ما بعد الحداثة - بل مرّت الحداثة هناك - ولا تزال - بتطورات متلاحقة، تتدرج بها في كل مرحلة من الأدنى إلى الأعلى.
فالديمقراطية البريطانية العريقة، لم تبلغ الشرعية الديمقراطية، إلا في 1918، عندما انتقلت من اقتراع الأغنياء (حوالي 3? من السكان) إلى الاقتراع العام. والديمقراطية الفرنسية لم تبلغ الشرعية الديمقراطية إلا في 1944 فقط، عندما اعترفت للمرأة بحق التصويت.
والديمقراطية الأميركية، لم تبلغ أولى عتبات الرشد، إلا قريباً، في عام 1962، عندما اعترفت لمواطنيها السود بحقوقهم المدنية.
ومع ذلك، فما زال الطريق طويلاً أمام هذه الديمقراطيات "العريقة" لتدارُك نقائصها، والخروج سالمة من أزماتها، بحل تناقضاتها الاجتماعية - السياسية.
ويرى بعض المفكرين العرب المعاصرين، أن تعريف تشرشل للديمقراطية بأنها أقل الأنظمة سوءاً، لم يهرم، فهي خير من التوتاليتارية في إيران وأفغانستان وسوريا والعراق حاليا.
-4-
وما دمنا قد خضنا في تاريخ وتجليات الديمقراطية على هذا النحو، فمن الضروري أن نتعرف على الأسباب العلمية التي تعيق تطبيق الاستحقاقات الديمقراطية في العالم العربي الذي انتفض منذ نهاية عام 2010 جرياً وراء تحقيق الديمقراطية، التي أصبحت الآن أشبه بالسراب في الصحراء العربية. وتحول الربيع العربي الآن إلى حرائق وفوضى خطيرة.
لقد كانت عوائق تحقيق الديمقراطية – علمياً وتاريخياً - مختلفة ومتنوعة، حتى وصلت إلى ثمانية أسباب رئيسية تفرَّع عنها أربعون سبباً تقريباً.
فمن هذه العوائق ما كان مرده إلى أسباب اجتماعية، ومنها ما كان مرده إلى مجموعات من المتشددين، ومنها ما يعود إلى أسباب ثقافية، ومنها ما يعود لأسباب سياسية.
فدعونا نستعرض – سريعاً - هذه الأسباب. ولنقرأ تشخيص عوائق تحقيق الديمقراطية العربية، والتي ما زالت هي العوائق والأسباب القائمة لعدم تحقيق الديمقراطية العربية، التي أصبحت سراباً الآن بعد الكوارث التي ألمت ببلدان "الربيع العربي"، الذي يبدو أنه يتحول إلى "حريق عربي"!
الأسباب الاجتماعية وتعود إلى عدم احترام قيمة الإنسان العربي. وإلى تخلّف الفـرد العربي. وإلى عدم إمكانية الإصلاح الاجتماعي باتباع الطرق الديمقراطية. وإلى غياب التعليم وغياب المؤسسات الدستورية. واستمرار الصراعات الطائفية والقبلية. وإلى اختفاء قوة الطبقة الوسطى. وإلى عدم تزامن التطور الاجتماعي مع التطور الاقتصادي. وإلى تأصيل الروح الطائفية والعشائرية بين الأحزاب السياسية. وإلى انتشار التخلف الحضاري في المجتمع العربي.
أما الأسباب الثقافية والسياسية التي تعيق الاستحقاق الديمقراطي في العالم العربي، فسنشرحها في مقال قادم، إن شاء الله، حيث انتهت المساحة المخصصة لهذا المقال.