كنا وما نزال نتحدث عن المعرفة باعتبارها شرطاً جوهرياً للتغيير، وأساساً للرقي، ومفتاحاً لقاطرة التحولات التاريخية الملبية لحاجات شعوبنا. وجاء الزخم الشعبي المصاحب لثورات الربيع العربي فعقدت الآمال على مشارفه واشرأبت الأعناق إليه.. وفي الناس عزائم متوثبة تنبض بدفق الحياة وإرادة التحدي الجماهيري المحتشد في الميادين والساحات لصوغ وعد التغيير وقهر سلطة الاستبداد.

لقد جرت مياه غزيرة – وغير نقية في الغالب الأعم – قبل أن تصبح الحقائق المؤلمة مثار جدل يلقي فيه كل طرف هفواته على كاهل الآخر.. وكان من بين أكثر هذه الحقائق وخزاً للضمير أن ربيعنا العربي لا تشرق في أفقه شمس للحرية، ولا أضغاث أحلام وردية تنتمي لوعود الثورة.. وفيما يشبه طلق الولادات المتعذرة جرت التضحية بالجنين البكر دون أدنى محاولة يمكن بذلها في سبيل إنقاذ حياته!

سوف نذهب إلى الساحات مجدداً، وهي ولا شك ما زالت بنفس قدرتها على إطلاق الدوي، وإنجاز موسوعات صخب لا ينقصه التدافع، ولسوف نرى عشرات الشباب المتحفز، لكننا سنكتشف أن شيئاً عزيزاً فقدناه على حين غرة، إنه روح الثورة ونفحاتها المائزة وأفقها المستقبلي الطلق. ومن هنا يبرز السؤال التهكمي الملح: كيف للأشياء أن تحقق كنهها متى غاب البريق وخمدت الروح؟

من غير اللائق أن يكون اليتيم ماركة حصرية لعائلات الشهداء، والحصانة وملذات الحياة امتيازاً حصرياً يمهر باسم الثورة لمصلحة الطغاة والقتلة..

على أننا مطالبون بالعمى حتى تمضي قافلة الثورة إلى الأمام ويستعيد المستبد إطلالته الفارهة فوق أكتاف عشرات الآلاف من صنائع الأمية والجهل وهواة الأصفاد. وهؤلاء تحديداً هم في الواقع ضحايا يعالجون بالشعوذة أدواء ثلاثة عقود من البؤس والحرمان، ولم تصل فكرة التغيير إلى أذهانهم، ويمكن اعتبارهم في نفس الوقت ضحايا الحكومات الثورية الصماء.

ثمة مكاشفات نقدية يتعين الشروع في إثارتها لإزالة الطوطم المتراكم والعوائق والسياسات التي تعترض طريق التغيير وتتزيا حلته.

هل من خصائص الثورات أن تغدو شأناً وظيفياً ومسألة اعتيادية يومية تستوعب العاطلين عن العمل وتمتص اندفاعات الكوادر الحزبية الشابة، أم هي على ما نعرف عمل استثنائي تختزله لحظة تاريخية حاسمة يتعقبها وعي معرفي يفجر الطاقات ويكتشف المواهب، ويحرك عجلة البناء والإنتاج ويغير مجرى الحياة برمتها؟

يتبادر إلى مدركاتنا أن بعض القوى السياسية تعاملت مع ثورات الربيع وفق حاجاتها هي لا بدواعي الاحتياجات الشعبية والوطنية، وما إن بلغت مكاسبها الذاتية حتى عاودها الحنين إلى ماراثونات السياسة ومخاتلاتها. ويوم تهدي الأقدار إلى بعض الأحزاب العربية المحسوبة على ربيعنا العربي فرصة للالتحام بروح الثورة وإزاحة علامات الاستفهام حول موقفها الحقيقي من مبادئ الحكم الرشيد يستفزها الأمر فتعاجل تلك الفرص بالرفض، كما حدث مع رئيس الوزراء التونسي الأسبق غداة الإعلان عن تشكيل حكومة (تكنقراط) من خارج الأحزاب السياسية التي باركت توجه السيد الجبالي، لكنها تركته وحيداً يصارع القيادات المتشددة في قمة الهرم التنظيمي للحزب الذي ينتمي إليه، مما أدى لإسقاط فكرة التحول وترحيل مشروع الدولة المدنية وتسيد البدائل السلبية المفضلة لدى حركة النهضة.

لكن ماذا عنّا في اليمن؟.. يبذل متخذ القرار جهوداً استثنائية للم شعث الفرقاء ورأب صدوع متفرقة الحيثيات والدوافع، محاولاً الوقوف على مسافة واحدة من جميع الأطراف، وربما لهذا السبب يغدو هدفاً لكل الأطراف أيضاَ!!

أعلم أن بمقدور التخلف والجهل مد النظام القديم بكافة الإمكانات المادية والبشرية المطلوبة لإعاقة العالم بقواه العظمى التي يقول المبعوث الأممي جمال بن عمر إنها تتحدث لغة واحدة في الشأن اليمني، فلماذا غاب وعي الحداثة عن دعاة التغيير؟

ومن رؤيتنا التأملية لتجليات المشهد السياسي يمكن استجلاء كوامن الصراع بين رأس النظام السابق والأحزاب التقليدية المنخرطة في ساحات الربيع، بوصفه صراعاً براغماتياً تحركه المصالح ويتغذى على الأغلبيات المريبة، وتحكمه موازين لم تكن المعرفة يوماً ضمن محدداتها، ولذلك ظل التخلف قاسماً مشتركاً لكليهما ورابطاً مقدساً لا تنفك آصرته بينهما.

حين يتعلق الأمر بالتعليم كأولوية قصوى في بناء المجتمع أو بالثقافة ودورها في مضمار الهوية الوطنية أو بنشوء مؤسسات بحثية تساند وترشد السياسات العامة فإن أكثر القيادات الحكومية إعراضاً وممانعة أولئك الذين تمخض بهم الجبل ونسلوا من رحم الثورة.

ترى هل يكون المؤتمر الوطني الوشيك محطة انتقال من مقلب التخلف إلى ذرى الوعي وتحديات المعرفة؟ وهل تتجه بوصلته إلى الأمام، كما هو العشم، أم إلى مكان آخر حيث تربض القطعان وخزائن الدولار وترسانات السلاح؟ وأيهما سيتغلب: السنبلة أم العسيب؟ أغاريد السلام أم مناحات النجف؟ العقل أم الفوضى؟ مواجهة جذر المشكلات أم أنصاف الحلول؟ الأنا أم الوطن؟

رحم الله أبو ماضي:

"جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت.. ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت.. كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري"!!