حنة أرندت (1906-1975) فيلسوفة ألمانية أميركية من أهم من أثّر في الفكر الفلسفي والسياسي في القرن العشرين. ترجم لها للعربية كتب "أصول الأنظمة الشمولية" و"في العنف" و"في الثورة"، إلا أن أحد أهم كتبها، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، وهو محور اهتمامنا هنا، "الشرط الإنساني" الذي لم يترجم بعد، فيما أعلم. في هذا الكتاب تفحص أرندت النشاطات الإنسانية لتبحث فيها عن النشاط الذي يستجيب لشرط الحرية والتنوع الإنساني.

بحسب أرندت فإن النشاط الإنساني يأخذ ثلاثة أشكال. أولا: أعمال العيش labor ، وهو النشاط البشري الذي يستجيب لشرط الحياة، أو النشاط الذي يقوم به الإنسان لكي يبقى حيّا. الأكل والشرب والطبخ والصيد أمثلة مناسبة لهذا النشاط. الثاني هو العمل Work ، وهو النشاط البشري الذي يستجيب لشرط وجود الإنسان في العالم ليتكيّف معه ويستمر في الحياة أيضا. صناعة ما يجعل حياتنا أسهل في هذا العالم هي مثال على هذا النشاط، صناعة الأدوات التي تجعل حياتنا أسهل، السيارات مثال على هذا النشاط. النشاط الثالث هو نشاط الفعل Action ، وهو الذي يستجيب لشرط التنوع الإنساني. الفعل هنا هو فعل كل ما هو جديد ومختلف ويعكس تنوع واختلاف البشر. النشاط الأول والثاني ينتميان بالنسبة لأرندت لعالم الضرورة، وفي المقابل ينتمي النشاط الثالث لعالم الحرية. كل هذه النشاطات جوهرية وأساسية بالنسبة لأرندت، ولكن النشاط الثالث هو من يستجيب لاختلاف الإنسان عن بقيّة الكائنات والذي يعوّل عليه حقيقة في الاستجابة للكوارث التي تمرّ بها البشرية. لا ننسى هنا أن أرندت هي من فلاسفة ما بعد الحرب العالمية الأولى والثانية الذين شاهدوا بأعينهم حجم المأساة الإنسانية.

المشكلة التي حصلت مع العصر الحديث أن مساحة النشاطين الأول والثاني اتسعت لتغطي المجال العالم والنشاط السياسي، وهي الأماكن التي يجب أن تكون مساحة للعمل الحر والمختلف. الكثير من الناس اليوم يخرجون للفضاء العام ونشاطهم مرتبط تماما بضرورات الحياة، وبالتالي فإن حساباتهم وهم يتخذون قراراتهم في المجال العام خاضعة لحساباته الخاصة، أو تحديدا خاضعة لشرط توفير ضروريات الحياة له. باختصار فإن عالم الضرورة يتسع على حساب عالم الحرية.

تقول أرندت: "الفعل أو النوع الثالث من النشاطات الإنسانية "هو النشاط الوحيد الذي يتحقق مباشرة بين الإنسان والإنسان بدون واسطة الأشياء، هو النشاط الوحيد الذي يستجيب لحقيقة التنوّع والتعددية الإنسانية التي هي في الأخير شرط النشاط العمومي الإنساني". في المجال العام أو ما تسميه أرندت "مكان الظهور"، حيث يحضر الناس ليشاهدوا الناس ولكي يشاهدوهم الناس. الظّهور هنا هو عمل لا يتحقق إلا في مجال الحرية حين يتحرر الإنسان ولو موقتا من عالم الضرورة ويستجيب لحالته كمختلف ومتنوّع وقادر على الجديد والاستثنائي.

نستطيع القول مع أرندت إن تمدد النشاط الثاني من نشاطات الإنسان هو خطر على إمكانية النشاط الثالث. النشاط الثاني الذي هو إنتاج ما يجعل الحياة على الأرض أيسر وأسهل تمدد بشكل هائل في العصر الحديث. الاستهلاك الذي هو إحدى العلامات الفارقة في الوقت الحالي هو شعار هذا التمدد. بالنسبة للكثيرين فإن عالم الضرورة أصبح أوسع بكثير ويتمدد باستمرار. الاستهلاك لم يعد متعلقا بالنسبة للكثير بالمزيد من الرفاهية بقدر ما أصبح شكلا من أشكال الضرورة التي لا يتصور الفرد حياة طبيعية بدونها. في هذا الفضاء تكون كل أعمال الفرد، حتى تلك في الفضاء العام، مأسورة بالاستجابة لعالم الضرورة المتسع والمتزايد يوما بعد يوم. تذكرنا أرندت أن الإنسان بالعادة يحوّل جديد حياته إلى شرط لحياته وينسى أنه قد عاش قبل هذا الجديد.

لكن ربما الإشكال الأوسع والأخطر والذي ظهر جليا مع أطوار الثورات العربية الحالية هو مبدأ الاعتراف بحقيقة أو إمكانية النشاط الثالث من أنشطة الإنسان الذي هو مجال الفعل والاستجابة للتنوع الإنساني والحرية البشرية. إلى أي مدى يستطيع المجال العام المرسوم، ولو نظريا في السياقات العربية الحديثة لعالم الاختلاف والتنوع، أن يتقبل الاختلاف في قضايا الدين والجنس والسياسة والاقتصاد؟ إلى أي مدى ستصل يد السلطة السياسية والاجتماعية وهي التي يفترض ألا تتجاوز عالم الضرورة إلى عالم الحرية؟ بحسب أرندت فإن ولادة بشر جدد كل يوم شاهد على الحرية الإنسانية. الولادة بحد ذاتها عمل فريد ولا شبيه له. لا توجد ولادتان متطابقتان أبدا. كل ولادة تأتي بمولود جديد ومختلف. كل ولادة تأتي بإمكانية واحتمال مفتوح ومن الصعب توقعه.

السؤال الجوهري هنا هو: إلى أي عالم ينطلق هؤلاء الأطفال، أو هذه الكائنات المليئة بإمكانية الجديد والمختلف والمتنوع؟ ما هي المساحات التي يحتلّها عالم الضرورة على حساب عالم الحرية؟ ما هي قدرة المجال العام على استيعاب ظهور هذه الكائنات الحرّة في داخله؟ إلى أي مدى سيسمح لهذه الكائنات أن تَظهر لترى وتُرى؟ إلى أي مدى تحظى الأسرة أو المدرسة (عوالم الأطفال الأولى) بإمكانية توفير مساحة تعترف وتحترم مساحة الحرية والإبداع والاختلاف والجديد الإنساني؟ إلى أي مدى تتوفر الأسرة على ضمانات عالم الضرورة في عالم يعاني في الكثير من توفر شروط الحياة الأساسية للأسرة من طعام وحليب؟ ما هي مساحة احترام التعدد والاختلاف في المدارس ومساحات التعليم؟ لا تزال المدرسة العربية اليوم كما كانت قبل الثورات العربية تدار بمركزية كاملة من مجموعة محدودة في مواقع صنع القرار، فيما يبقى دور الناس والمجتمعات المحلية سلبيا في المشاركة فيما يتعلّمه أطفالهم.. كل هذه أسئلة جوهرية تتولد مع قراءة أرندت حول الشرط الإنساني وتبرز للواقع يوميا مع الحراك الهائل الذي يمر به العالم ككل والشرق الأوسط بشكل خاص.