للعلم والمعرفة طعم لا يعرفه إلا من تذوق رحيقه بفكره، وتعطرت روحه بعبير باقات رصت على أرفف أو على الأرصفة في الأزقة والساحات.. معرفة تثير غضب البعض ممن لا يعرف كيف يتعامل معها، ومعرفة تبعث الرضا والأمل لمن يقرأ بعقل وروح ووجدان. ومصادر المعرفة كثيرة ومتنوعة مع دخولنا عصر العالم الافتراضي وسرعة الحصول على المعلومة، ولمن لديه المهارة والقدرة وقبلها الإرادة.. لا شيء يستطيع أن يقف في طريقه إن هو أراد الحصول على معلومة سواء كانت حديثة أو قديمة، في كتاب أو مقالة أو دراسة، تقرير إعلامي من مختص، ناشط أو مجرد هاو، لا حجب ينفع ولا منع، لا تزوير، لا فبركة، لا سرقة ولا اعتداء يخفى.. وكما يقال "كل شيء وضع على الطاولة". المشكلة في العقل الذي سيتعامل مع هذه المعلومات وليس في المعلومات نفسها، فترى من يفتح النار عليها ويبدأ بالهجوم أو المقاطعة، وبدل من أن يعملوا على الارتقاء بالعقل والفكر والمنطق، يشهرون سيوفهم لمحاربة طواحين الهواء!
إن أُحرق كتاب فسوف يطبع وينشر مليون كتاب، وإن حُجب موقع فسوف ينبت ألف ومليون موقع، وإن تم التعتيم على معرفة فسوف تنفجر وبالألوان قبل أن تصل شظاياها إلى من يعتقدون أنهم يحمون، ويتشرذمون حينها فرقا وطوائف، يتناحرون بناء على فكر سطحي وبعض الموروثات! وبدلا من أن نتعامل مع المعرفة كما يتعامل المزارع مع أرضه، نحرقها كما يحرق المحتل الأرض والزرع والمزارع! فالمزارع ـ يا سادة ـ يزرع ويروي وينزع الأشواك والطفيليات ولا يحرق أرضه ليقضي عليها! بالخبرة والتدريب عرف كيف يفرق بين المفيد وبين الضار.
حين حذر بعض المفكرين والدعاة من التحريض المذهبي، وخطورة تفجير الفتنة المذهبية والعرقية، ومن خواء الفكر، ومن غياب الحوار واحترام الآخر، ليس بالضرورة لتقبل فكرهم، ولكن للتعرف وفهم ما لديهم، ويبقى لنا حرية الدراسة والتحليل، ومن ثم التقرير من خلال فكر حر قادر على اختيار الأصلح.. أثار ذلك الاستهجان والاستنكار، بل أدى إلى إعلان الحروب على الكثير منهم وإقصائهم، فخلت الساحة للفكر والصوت الواحد، وبدأنا اليوم نرى نتاج ذلك مع انكشاف وتعري عدد من أصحاب الفكر المتشدد والإقصائي، ورأينا تأرجحهم وازدواجية المعايير التي يحملونها... تقول أفعالهم: "ما نقوله عليكم فرض وعلينا اختيار"!
يقول ابن خلدون" إننا نتعرف على الغائب من الشاهد"، ولو أسقطنا ذلك على ما يحدث اليوم من نشر الإشاعات التي لو توقفنا وفكرنا لوجدنا أننا حين نحلل وندرس الناتج، يتضح لنا أن المراد أو القصد ليس القول إن هنالك تعديا أو اعتداء، بل هناك غياب وتجاهل! قد يتساءل البعض منكم: لمن؟ سأجيبكم، لنرى ماذا يحدث اليوم، كثرت الشائعات والأخبار المحرضة، واستعداد الكثير من القفز على العربة، بل هنالك من يزيح الدواب التي تجرها ويجرها بنفسه، مضيفا بعض بهارات الصور ومقاطع اليوتوب التي يعلم الله إن كانت قديمة أم حديثة، من عندنا كانت أو من تمبكتو، من زاوية توضح المشهد كاملا، أم جزءا من مشهد يراد به إيصال رسالة وإن كانت ناقصة.. وحين تحذر أصوات من خطورة ما خلف الخبر من نشر الرعب والخوف ناهيك عن التفرقة بين المواطنين وتقبل بل دفع البعض لأخذ الأمور بأيديهم، يجيبون بأن ما يفعلونه ليس سوى حق الدفاع أو الهجوم الاستباقي عن أنفسهم وأسرهم، متجاهلين أن هنالك مختصين من رجال السياسة يعرفون جيدا من العدو ومن الصديق.. بارعون في كيفية إدارة المحافل الدولية والإقليمية لمصلحة الوطن، وأن لدينا رجال الأمن وصقورا يواصلون النهار بالليل من أجل بسط الأمن والأمان على كل شبر من أرضه الطاهرة. والغائب من المشهد والذي نستدل عليه من التحركات الفردية هنا، هو زعزعة الثقة برجال الساسة والأمن وجنودنا الذين يحرسون ثغورنا من كل غاصب أو معتدٍ.
غيبنا العقل والحوار الفكري.. غيبنا المنطق.. هجرنا بناء الإنسان بكل مكوناته، كل مكون بنفس أهمية الآخر، واليوم ندفع الثمن! تركنا الساحة خوفا أو لعدم قوة الوطنية بداخلنا، مهما كان السبب، تخلينا عن مسؤوليتنا نحو الوطن قبل أنفسنا، ولكن الوقت لم يفت.. نعم الطريق طويل وشائك بدخول من لا يريد الخير والأمن والسلام لبلدنا.. نعم هنالك من يعمل على استغلال الثغرات والخلل الثقافي والفكري لدى البعض من النخب المثقفة، كما لدى الغالبية من العامة، ولكن هذا ما يجب أن يدفعنا لتوحيد الجهد والبدء في حملات مضادة لإعادة الصدارة للفكر والعقل والمنطق، ليس بالإقصاء ولا بالمهاجمة، بل بالاحتواء والحوار والتثقيف، وبالتالي إعطاء الفكر والقرار الحر فرصة لكي يعيد البناء الصحيح، وبالتالي الارتقاء وحماية الوطن.