بعد إعلان "جبهة الإنقاذ" في مصر مقاطعتها الانتخابات البرلمانية المقبلة، وكذا الحوار الذي دعا إليه الرئيس محمد مرسي، يمكن للمراقب لتطورات الأوضاع أن يرى البلاد على عتبات ما يصفه علماء الاجتماع السياسي بمصطلح "الدولة الفاشلة"، وهي الدولة الرخوة التي تحاصرها الأزمات من انقسام سياسي يتعمق يومًا تلو الآخر، وانهيار الاقتصاد، والعجز عن تقديم الحد الأدنى من متطلبات المواطنين من الخدمات العامة كالأمن والخبز والكهرباء والوقود وغيرها، ناهيك عن ازدهار تجارة الأسلحة والمخدرات وغسيل الأموال وغيرها.
في ظل هذه الصورة القاتمة تسربت مؤخرًا ما اصطلح على تسميته بـ(وثيقة الجهاد) وهي أحد مستندات قضية "خلية مدينة نصر" التي تضم قائمة للاغتيالات تشمل معظم المعارضين، ومن بينهم كاتب هذه السطور، والمثير أنها أيضا تشمل الرئيس المصري ورئيس الوزراء وقادة المعارضة باعتبارهم جميعًا من "أعداء الإسلام الذين يجاهرون بالكفر، ويحرضون على أهل الإسلام، ويعينون المشركين"، كما ورد في الوثيقة المذكورة.
ومن خلال خبرة أمنية وسياسية أتوقع أن تشهد المرحلة المقبلة حملة اغتيالات معنوية وتصفيات جسدية في سياقات متوازية لخصوم الإخوان السياسيين، لا سيما وأن حزمة قوانين يجري طبخها الآن لفرض قيود على حرية التعبير بمزاعم من طراز: الحفاظ على الأمن القومي، "ميثاق شرف" إعلامي يكفل عدم تدخل وسائل الإعلام في الدعاية الانتخابية، وغيرها مما يوصف بشعارات الحق الذي يراد به الباطل.
ومنذ أن اختطفت جماعة الإخوان الثورة المصرية استخدمت شخصيات وحركات وجماعات كحلفاء "مرحليين" كالتيار السلفي و"حزب النور" المنبثق عنه، ثم ما لبثت أن ألقت بهم في "سلة المهملات"، بل وشوهتهم بتسريبات عن تورط مستشار الرئيس، خالد علم الدين في وقائع فساد واستغلال نفوذ ليتم إقصاؤه من منصبه، في إطار خطة تشويه "حزب النور" السلفي، التي يشرف عليها نائب المرشد العام للإخوان، ومهندس المؤامرات خيرت الشاطر لتفتيت الحزب السلفي قبل الانتخابات البرلمانية، حيث يشكل السلفيون خطرًا على الإخوان في شتى أنحاء مصر.
وتناولت التسريبات تفاصيل "خطة الشاطر" التي بدأت بتشكيل كيان يحمل اسم "هيئة الحقوق والإصلاح" الذي ضم عددًا من شيوخ السلفية، بهدف اختراقهم وإحداث وقيعة بينهم، مستغلا في ذلك خبرات السلفيين المتواضعة في السياسة، وبالفعل نجح الشاطر في استقطاب رئيس حزب النور السابق عماد عبد الغفور، وتعيينه مساعدًا لرئيس الجمهورية، إثر انشقاقه على الحزب ليؤسس حزبًا آخر يحمل اسم "الوطن".
هذه عينة من الاغتيالات المعنوية لأقرب حلفائهم، السلفيين، وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد بل سيمتد في المرحلة المقبلة لاستخدام فصيل آخر هو "السلفية الجهاد" ـ وهو أحد أذرع "القاعدة" في مصر ـ لتصفية خصوم الجماعة ممن قد يشكلون حجر عثرة أمام مشروع "التمكين".
وتجدر الإشارة إلى أن هذه المعلومات كشفتها التحقيقات في قضية "خلية مدينة نصر"، وأكدتها معلومات مصادر أمنية توقعت أن تكون التصفيات "نوعية"، أي ستستهدف شخصيات محددة، وتتم بطريقة يصعب تحديد الجناة فيها، وسيصدر الإخوان بالطبع بيانات تشجب العنف، أما قضائيا فستنتهي تلك القضايا إلى "القيد ضد مجهول" لأن عناصر "القاعدة" ليسوا مصريين فحسب، بل هم خليط من جنسيات شتى، وسينفذون عملياتهم وفق خطط تنتهي بهروب الجناة خارج البلاد، ويمهد لهم هذا السيناريو الانفلات الأمني الراهن.
وفي مستندات قضية "خلية مدينة نصر" معلومات خطيرة، منها مثلا: أن من يحتكم لأي "نظام وضعي" فهو مشرك، بما في ذلك الرئيس مرسي ذاته لأنه أقسم على احترام دستور يتضمن أن السلطة للشعب، وهذا برأيهم "حكم بغير ما أنزل الله"، كما لن يسلم منهم كبار رموز الدعوة، سواء من الأزهريين أو السلفيين الذين اعتبرهم المتهمون في القضية "علماء سلاطين".
لكن الأمر هنا لن يمر مرور الكرام، فالتخلص من هذه الخلايا المنبثقة عن "القاعدة" لن يكون بسهولة إقصاء السلفيين، فهؤلاء لا يمارسون السياسة بأدواتها المتعارف عليها، بل بالكلاشينكوف، وسيدخلون حربا ضد الإخوان وأجهزة الأمن وحتى القوات المسلحة التي تلاحقهم بالفعل في سيناء.
إثر اغتيال المعارض التونسي شكري بلعيد، وعقب فتوى لأحد رموز السلفية الجهادية في تونس تهدر دماء كل مَن يروْنهم معارضين للحكم الإسلامي، خرج قادة الإخوان بتصريحات تزعم أن "مصر ليست تونس"، لكن هذه العبارة بالتحديد سبق أن سمعناها من مسؤولين في عهد مبارك، وتحديدًا في 17 يناير 2011، حين اندلعت شرارة الثورة التونسية، ولم تمض أيام حتى انطلقت الثورة التي أطاحت بمبارك ونظامه.
وشهِدت مصر فتوى أطلقها أحد الشيوخ المثيرين للجدل، أباح فيها ما وصفه بحُكم الشرْع بقتْل قادة جبهة الإنقاذ، باعتبار أنهم ينازعون الحاكم الشرعي، ثم انشغل الرأي العام في دوامة قانون الانتخابات البرلمانية، ونسي الجميع الفتوى، لكن لا يخالجني شك أن هناك من تلقفها، ولعله يعد العدّة لتنفيذها أثناء إجراء الانتخابات البرلمانية، أو حتى خلال الاحتجاجات الشعبية التي يتوقع أن تتزامن مع تلك الانتخابات التي يشكك كثيرون في إجرائها وفق ما هو مخطط لها رسميًا.