كشف تقييم عالمي سابق لأنظمة التعليم العالمية تموله منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الدولية (OECD) من خلال برنامج عالمي يسمى (التقييم الدراسي العالمي) الذي ركز على الأداء الدراسي لربع مليون طالب استهدف سن الخامسة عشرة في 32 دولةً موزعة في شتى القارات؛ عن وجود نتائج متفاوتة في أنظمة التعليم في بلدان العالم المختلفة، فبعضها سجل نجاحات مذهلة في بعض المجالات، ولم تفلح في مجالات أخرى، وأخرى هنا لم ينجح أحد!
قامت الدراسة بالتقييم عبر معيارين واضحين أو بما يسمى مدرستين في التربية؛ المدرسة الأولى تهتم بتقديم المعلومات (ككل) للطلاب، والمدرسة الثانية تهتم بتطوير المهارات والقدرات الفردية، وكانت النتائج عدم بروز نظام على الآخر بالأفضلية، فكان التفاوت يبدأ من اختبارات الدراسة والتقييم لقدرات الطلاب في القراءة والرياضيات والمهارات العلمية لحل المسائل المتعلقة بحياتهم العادية، كما ركزت على التطبيقات العملية للعلوم والمهارات وتحديات الحياة اليومية العملية.
كشف التقييم التأثيرات المختلفة للأنظمة التعليمية المختلفة في أنحاء العالم في بعض النظم التعليمية العالمية، فوجد أن البلدان الآسيوية تركز على تقديم المعلومات والحقائق بأسلوب رسمي (صارم) لمجموعة من الطلاب في صف واحد، دون الأخذ باعتبارات القدرات الفردية المتفاوتة لهؤلاء التلاميذ.
فاليابان وكوريا مثلاً كانتا في مقدمة البلدان في تقييم الرياضيات والعلوم، مما يدعم نظام التعليم الشرقي الذي يقوم على تقديم المعلومات إلى الجميع، بغض النظر عن القدرات الفردية للتلاميذ، مُبقين الاهتمام بالتعليم على المستوى الشعبي، حيث يُتوقع من التلاميذ أن يدرسوا بجد ويحرزوا تقدماً كبيراً في الدراسة، خاضعة تحت ضوابط رسمية صارمة تكفل حقوق الطالب و(المعلم) معاً في المدارس وخارجها.
أما النظام أو المدرسة الثانية فيتجه إليها كثير من النظم التعليمية والمهتمة بتطوير المهارات والقدرات الفردية، فالقراءة (كمثال) لا تقاس بقدرة الطالب على القراءة فقط و(كم) صفحة قرأ في الدقيقة! بل على الفهم والتحليل والتفكير والتقييم، حتى إن (اختبارات) القراءة الحديثة لا تعتمد إلا على التحليل فقط.
وبالتالي هنا؛ لا بد من ذكر تجربة النظام الإنجليزي في سنواته الأخيرة ليجد فيها أنه يركز على تطوير المهارات وحل المسائل العلمية والرياضية وليس تقديم المعلومات والحقائق، حتى وإن كان في ذلك تبسيط للمعلومات.
وتجلى ذلك في الانتقال في تعليم التاريخ، حيث كان الطالب يتلقى ضمن النظام التعليمي الإنجليزي السابق - قبل ثلاثين سنة تقريباً - أسماء وتواريخ المعارك والأحداث الرئيسية، فكان الامتحان يعتمد على الحفظ وقوة الذاكرة فقط، حتى هبت رياح التغيير لمرحلة انتقالية بدراسة التاريخ من حفظ التواريخ والأسماء إلى تطوير أساليب حديثة في بحث الحوادث التاريخية وأسبابها وحلولها...
كانت نتائج التقييم مذهلة، حيث حصلت بريطانيا على مراكز متقدمة في المرتبة الرابعة في العلوم والسابعة في القراءة، لتتفوق على كل الدول الأوروبية ماعدا فنلندا التي تعيش صحوتها العلمية الراهنة.
وباختصار، لا يمكن التعرف من هذا التقييم على أفضل الأنظمة التعليمية، لأن بعض البلدان أحرزت تقدماً في بعض المواضيع، بينما أحرزت بلدان أخرى تقدماً في جوانب أخرى، لكن يمكن التعرف من خلاله على المجالات التي يمكن لبعض البلدان الاستفادة فيها من تجارب البلدان الأخرى في مجال التعليم، والجميل أن النظامين التعليميين يتميزان ببعض المرونة فيما يتعلق بتبني أساليب وطرق جديدة في التعليم.
يبقى لنا من الدراسة والتقييم السابق السؤال الأهم أين يقع تعليمنا بين المدرستين اليوم؟ الإجابة تقول إنه ما زال يهيم تحت المدرسة الأولى و(الأولى) فقط، وهنا تنتفض الإجابة لتتفرع منها أسئلة جديدة، هل نظامنا التعليمي يتميز ببعض المرونة فيما يتعلق بتبني أساليب وطرق جديدة؟ ولِمَ لا نخرج إلى المدرسة الثانية؟ أو حتى المزج بينهما.
الإجابة كنا ننتظرها من مشروع "تطوير التعليم" الذي راهنت وزارة التربية على نجاحه سنين عدداً وما زلنا ننتظر ما يخدم أجيالنا وحالنا، وما أردناه أن يخرجنا من عباءة (إدجار ديل) الشهيرة التي نراها مطابقة لحال أبنائنا وتعليمهم: "يقضي الطلاب معظم وقتهم في المدرسة أو الجامعة بالدخول إلى الصفوف والخروج منها، فلا يبقى لديهم وقت للتعلّم!".