بعد سنة من مقتل الزعيم الليبي معمر القذافي، شاع نبأ وفاة ابنه خميس في مدينة بني وليد، الواقعة جنوب شرق العاصمة طرابلس. وعلى رغم تضارب الأنباء بشأن مقتل خميس، فإن المدينة وسمت بأنها مقر لأنصار النظام السابق ومأوى لهم، وكذلك للخارجين على القانون والمعادين للثورة، على حد وصف رئيس المؤتمر الوطني العام محمد المقريف.

وعلى حين غرة، اندلعت الجمعة الماضي اشتباكات في المدينة، ليتجدد معها الاضطراب الأمني في البلاد، التي خرجت لتوها من عملية اختيار رئيس جديد للوزراء، بعد 3 أشهر من الانتخابات العامة. وبالتالي، عاد المدنيون والعمال الأجانب إلى الفرار من المدنية بعدما باشروا بإعادة بنائها، وعادت القذائف لتنهمر عليها في هجمات بين الكتائب المسلحة القبلية وكذلك الموالية للحكومة.

وكانت مدينة بنغازي التي شكلت مهد الثورة ضد القذافي، سباقة إلى إعلان الحرب على الميليشيات.

مثلت بنغازي رمزاً للمقاومة الليبية، إذ انطلقت منها شرارة الثورة التي لم يتوقعها أحد، وأعلنت التمرد على نظام العقيد معمر القذافي الذي وقف مذهولاً وقال جملته المشهورة "من أنتم؟"، واتخذ الثوار من هذه المدينة التي عانت من التهميش معقلاً لهم، تركزت فيه قواعدهم ومنها انطلقت جحافلهم لتعلن ميلاد صبحٍ جديد.

وكما أعلنت بنغازي ميلاد الثورة، لم تشأ أن تكتفي بذلك، بل أعلنت أيضاً الثورة ضد المليشيات المسلحة الخارجة عن القانون. فبعد حادثة السفارة الأميركية ببنغازي التي هاجمها متظاهرون غاضبون من الفيلم الأميركي المسيء للنبي صلى الله عليه وسلم، مما أدى إلى مقتل السفير كريس ستيفنز و3 من طاقم السفارة في الحادي عشر من سبتمبر الماضي لينتفض أبناء هذه المدينة ضد وجود المليشيات المسلحة التي خرجت على سلطة الدولة، بعد أن وجِّهت إليها أصابع الاتهام بالمسؤولية، وقام أبناء المدينة الثائرة بعد 10 أيام على مهاجمة السفارة بطرد مليشيا "أنصار الشريعة".

وانتهزت الحكومة هذه الفرصة التي جاءتها على طبقٍ من ذهب لتأمر كل المليشيات الأخرى غير الشرعية بإخلاء مقارها وتسليم أسلحتها. ولم تكتف بذلك بل وضعت يدها على اثنتين من أقوى الكتائب المسلحة في المدينة، وقامت بعزل قائدي كتيبتي 17 فبراير وميليشيا راف الله السحاتي المدجَّجتين بالسلاح، اللتين كانت تتوليان مسؤولية الأمن بموافقة ضمنية للسلطات منذ الإطاحة بالنظام السابق. وقال مسؤول ليبي إن كتيبة درع ليبيا ستشهد أيضاً تغييرات في القيادة. وتمتلك هذه الكتائب ترسانات أسلحة ضخمة وسجوناً يحتجزون فيها مسجونين خارج النظام القضائي الرسمي.


جلاء الحقيقة

ولم تكد الثورة الليبية تنجح في مسعاها الرئيسي إلا وظهرت مشكلات متفرقة في أنحاء البلاد، كان من أخطرها رفض بعض الكتائب المسلحة تسليم المعتقلين من رموز العهد الماضي للسلطة المركزية، وإصرارها على محاكمتهم وكأنها أصبحت بديلاً للشرعية والسلطة المركزية، إلا أن المجلس الانتقالي تعامل معها بصبر لإدراكه بأن الروح الثورية ما زالت تسري في هؤلاء، وأنهم بحاجة إلى مزيد من الوقت لإدراك أهمية الإذعان والتسليم للسلطة الموحدة. كما أن تلك الكتائب التي قادت الثورة العسكرية لم يكن يربط بينها رباط جامع، ولم توجد بينها قواسم مشتركة، فالجميع اتفقوا على ضرورة التغيير الذي ما إن تم، حتى بدأوا في محاولة الاستئثار بالسلطة وفرض الأمر الواقع والتحدث بلغة القوة والسلاح.

ويبدو أن "أمراء الحرب" قد أدركوا تغير الأوضاع، حيث أعلن المئات من أعضاء تنظيم أنصار الشريعة أنهم قرروا التحول إلى العمل الدعوي غير المسلح في البلاد من أجل المحافظة على "مكتسبات وثوابت الثورة"، وأكدوا في ختام تجمع عقد يوم السبت 12 أكتوبر الماضي في بنغازي تأسيس مؤسسة مدنية دعوية أطلقوا عليها اسم "التجمع الإسلامي لتحكيم الشريعة". وشدَّد القيادي بالتنظيم أحمد الزليتني على أن العمل المسلَّح "لم يعد أحد خياراتهم"، ودعا كافة التنظيمات الإسلامية للانخراط في العمل المدني السلمي.


مخاوف مبررة

ويحمِّل مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ضياء رشوان المليشيات مسؤولية انتشار السلاح وسط الشعب الليبي ومن ثم وقوع أعمال الفوضى والعنف، ويقول في تصريحات لـ "الوطن": "الصورة في ليبيا ليست وردية، وهناك تحديات كثيرة تلوح في الأفق، فهذه الكتائب المسلحة تضع نفسها فوق القانون. لذلك فهي تمثِّل التحدي الأكبر الذي يواجه أي حكومة قادمة. لذلك أرى أنه لا بد أن تبادر السلطة القادمة إلى تقديم بديل مناسب للميليشيات لتشجيعها على العودة إلى الحياة المدنية". وأضاف: "على المجتمع الدولي كذلك مساندة الحكومة الليبية في مساعيها لجمع السلاح بكل الطرائق حتى تتحرر البلاد من التنظيمات الإرهابية، وعلى الثوار الليبيين دعم بلادهم لأن الكثير من المخربين والمرتزقة يريدون تفتيتها. وإذا أراد المسلحون الاحتفاظ بأسلحتهم عليهم الانضمام إلى الجيش النظامي أو قوات الأمن الداخلي".

وبدوره يرى أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة حسن نافعة أن المليشيات قد تلجأ للقوة لمواجهة أي محاولة لتجريدها من سلاحها، ويقول: "هذا يعني أن ليبيا تواجه خطراً مسلحاً، وعلى أعضاء المؤتمر الوطني الليبي العام الإسراع في إصدار القوانين التي تجرم حمل السلاح وتدين التعرض للمواطنين الأبرياء، أو التعدي على المقدسات الدينية والسفارات الأجنبية، خصوصا أن هناك بعض التجمعات الإسلامية التي جمعت الكثير من السلاح الخفيف والثقيل بعد سقوط النظام السابق، وهؤلاء لن يتخلوا عنه بسهولة، إضافة إلى ذلك فإن قيادات بعض المواقع العسكرية المنشقة رفضوا الاندماج تحت شرعية وزارة الدفاع، رغم أن هذه المواقع تمتلك آليات عسكرية ثقيلة مثل الدبابات والصواريخ وقذائف آر بي جي وغيرها".





مفارقات

ومن المثير للاستغراب أن ليبيا رغم تمتعها بكميات كبيرة من النفط تؤمن لها دخلاً مرتفعاً، إضافة إلى قلة عدد سكانها مقارنة بمواردها الاقتصادية، إلا أنها لا تملك جيشاً حديثاً على غرار بقية دول المنطقة، وكان النظام السابق يعتمد على كتائب مسلحة منفصلة بقياداتها وأسلحتها ونظمها الإدارية، وكأن كل منها مؤسسة مستقلة. ويقول رئيس المؤتمر الوطني العام محمد المقريف في بدء فعاليات المؤتمر العلمي الأول للجيش الليبي الذي تنظمه رئاسة الأركان العامة على مدى 3 أيام متتالية: "الجيش الليبي عمره 72 عاما لذا نعتبر تاريخه عريقا"، لكنه أبدى أسفه على تهميشه من قبل نظام القذافي.

وشدَّد على أهمية بناء المؤسسة العسكرية بكامل تشكيلاتها وفق أسس حديثة تواكب التقنيات الدفاعية المتطورة لتساهم في تلبية متطلبات الدفاع عن الوطن ورفع التهديدات التي تعترض مسيرة بنائه. وأكد ضرورة أن "يتحلى الجيش الليبي بعقيدة الانتماء إلى جميع الليبيين وضمان حماية مصالحهم وأمنهم دون تردد أو تقصير".


الجيش أولوية

كما أدرك رئيس الوزراء الجديد علي زيدان أهمية وجود جيش قوي بتنظيم حديث، وقال لدى مخاطبته المؤتمر العام عند تعيينه بأن إعادة بناء هيكلة وتطوير الجيش وبقية القوات النظامية ستكون على رأس أولويات حكومته التي ستطلق برنامجاً مكثفاً لتنظيم وتدريب قوات الأمن الوطني والجيش وفق أسس حديثة، إضافة إلى ضخ دماء جديدة في هاتين المؤسستين واستبدال كل الضباط الذين ساندوا نظام القذافي.

ويبدو أن أخطر التحديات التي تواجه السلطة الجديدة هي الاشتباكات الدائرة في مدينة بني وليد جنوب غرب العاصمة بين قوات تابعة للجيش وأنصار النظام السابق، حيث تؤكد مصادر مطَّلعة أن المواجهات بدأت عقب قرار المؤتمر الوطني الذي ألزم وزارة الدفاع والداخلية بالقبض على من قاموا بتعذيب الثائر الليبي عمران شعبان الذي كان أول من اكتشف مخبأ القذافي قبل مقتله في 20 أكتوبر 2011. وكان شعبان قد أصيب بإصابات خطيرة أثناء اختطافه وكشفت الفحوصات الطبية التي خضع لها في فرنسا أنه تعرض إلى تعذيب بشع أدى إلى وفاته. وأكدت المصادر استمرار قوات الجيش في الحشد لمحاصرة المدينة تمهيداً لاقتحامها في حال رفضت الكتائب تسليم المطلوبين والمسؤولين عن تلك الجريمة.


تحديات

ويلوح في الأفق أن التحديات التي ينبغي على القيادة الليبية أن تواجهها لا تقتصر على المهدِّد الأمني فقط، وأن هناك كثيراً من المحطات التي ينبغي أن تمر بها بلادهم بعد أن تجاوزت مرحلة الثورة المسلحة للوصول إلى وطن مستقر وآمن طالما حلم به الليبيون وتمنوه ودفعوا في سبيل الحصول عليه ثمناً غالياً من أرواح أبنائهم.


انتخابات فريدة

وجاء الاستحقاق الانتخابي ليكون أهم اختبار أمام السلطة الجديدة، وأكثرها صعوبة بالنسبة لمصداقية الثورة والثوار الذين حملوا السلاح وقاتلوا لاسترداد حقهم في الديموقراطية. ومن أكثر ما واجه الحكومة الانتقالية التخوف من حدوث أعمال عنف أثناء أو بعد ظهور نتيجة الانتخابات لأنها هي التي تمنح الضوء الأخضر للقادة الجدد بالتقدم واستلام زمام الأمور. إلا أن بيئة الانتخابات الليبية تميزت بظروف غير معتادة في التجارب الانتخابية بوجه عام، أبرزها انتشار السلاح وسط المواطنين، وبسبب تردد السلطة الجديدة في نزع هذا السلاح ظهرت أنواع متقدمة منه. مما دفع كثيرين للمطالبة بتأجيل الانتخابات حتى تتمكن الدولة من استعادة هيبتها. لكن ذلك لم يحدث وجرى الاستحقاق الانتخابي في تلك الأجواء الصاخبة. كما أشار البعض إلى أن ثقافة التصويت والاقتراع ليست لها جذور داخل المجتمع الذي لم يعهد مثل هذه التجربة طيلة 42 عاماً، ونتج عن كل ذلك أن وجد الليبيون أنفسهم مقبلون على تجربة جديدة يجهلون معظم مفرداتها.


انتخابات طبيعية

لكن ورغم كل تلك المخاوف جرت الانتخابات في أجواء طبيعية ولم تشهد أعمال عنف على نطاق واسع كما كان متوقعاً، وإن كانت لم تخل من بعض الاشتباكات. وخالفت نتائج الانتخابات كل التوقعات، إذ تفوق تحالف القوى الوطنية الذي يضم تحالف القوى الحديثة والمثقفين على التيارات الإسلامية التي كان من أبرزها "الإخوان المسلمون" والسلفيون، إلا أن المستقلين كانوا فرس الرهان الذي سبق الجميع حيث حازوا على غالبية مقاعد المجلس الوطني.


صعوبات أمنية

وإن كانت سفينة ليبيا قد تجاوزت كثيراً من المآزق الصعبة، إلا أن هناك حزمة من التحديات التي تواجه السلطات الجديدة، من أهمها:

مثّل رموز النظام السابق وعلى رأسهم أبناء القذافي وأفراد الدائرة المقربة منه أكبر الخطر على الثورة والنظام الجديد، ورغم رفض الشعب لعودتهم، إلا أن المستفيدين من النظام السابق وبفضل ما يمتلكونه من أموال طائلة تسببوا في مشكلات كثيرة للسلطة الجديدة التي سارعت إلى طلب تسلمهم من الدول التي استضافتهم، وعلى الرغم من فشلها في استعادة غالبية المطلوبين إلا أنها تلقت رسائل طمأنة من تلك الدول المضيفة بأنها لن تسمح بأن تكون أراضيها مسرحاً لأي عمليات معادية لليبيا. وعلى الرغم من أن الحكومة تؤكد قدرتها على توفير الاستقرار السياسي في البلاد، إلا أن آخرين يرون أن المرحلة المقبلة لن تخلو من العنف وظهور التنظيمات المسلحة، سواء كانت من بقايا نظام القذافي أو حتى التنظيمات المسلحة التي ستظهر لمناهضة سريان العمليَّة السياسيَّة داخل البلاد. ويشير هؤلاء إلى أن انتشار السلاح بمختلف أنواعه في أيدي الأفراد والمليشيات يمثِّل أكبر العقبات التي تقف في وجه السلطة وتهدد قدرتها على فرض القانون وهيبة الدولة.


تحديات اقتصادية

تعاني ليبيا - مع تمتعها بموارد نفطية كبيرة - من وجود تحديات اقتصاديَّة عديدة، ومع أن القادة الجدد تحدثوا عن إعداد خطط تنموية شاملة، خصوصاً فيما يتعلق بإعادة إعمار البلاد وإصلاح البنية التحتية، إلا أن المحلِّلين يؤكِّدون أن القيام بمثل هذه الإصلاحات يستلزم وقتاً ومجهوداً كبيرين. فالصناعة النفطية تضررت كثيراً من القتال واشتعال بعض الآبار بالحرائق، مما يستلزم فترة لا تقل عن 3 أعوام على الأقل قبل أن يعود الإنتاج النفطي إلى مستويات ما قبل الحرب. وعلى الرغم من تأكيد بعض الدول، خصوصاً إيطاليا والولايات المتحدة نيتها الإفراج عن بعض الأصول الليبية المجمدة التي تقدر بحوالي 170 مليار دولار، إلا أن بعض الخبراء يؤكدون أن هذه الأصول المقرَّر الإفراج عنها لا تتعدى 10% من إجمالي الأصول المجمدة.

كل المؤشرات تدل على أن المرحلة المقبلة ليست سهلة، وأن نجاح الليبيين في إعادة بناء دولتهم مرهون بوحدتهم وانصياعهم لحكم القانون. فالبلاد في حاجة إلى إعادة إعمار شاملة لما دمرته الحرب، فالبنية التحتية التي كانت أصلاً تعاني من التردي ازدادت سوءاً، وهذه العملية تحديداً محاطة بأطماع عالمية وإقليمية كثيرة في ضوء الظروف التي مرت بها ليبيا، لا سيما بعد الدور الكبير الذي لعبته أطراف غربيَّة في إنجاح الثورة في البلد الغني بالموارد النفطيَّة. وكذلك هناك معركة التحديث والتطوير والوصول إلى طبيعة نظام الحكم المستقبلي، فضلاً عن تحديد شكل العلاقة مع دول الجوار. لكن يبقى الرهان على إرادة الشعب الليبي وطموح أبنائه في العيش بحرية وكرامة وعدالة، فالدماء التي سالت إبان الحرب مع النظام البائد لا ينبغي أن تضيع هباءً، والأولى أن يكون الوفاء لأرواح الشهداء دافعاً لجميع الليبيين للتكاتف والعمل يداً واحدة في سبيل استتباب الأمن والأمان، وطي صفحة الماضي بكل ما لها وعليها من تراكمات.

فهل ينجح الليبيون في تجاوز هذه المرحلة بنجاح؟ أم يفشل الثوار في بناء دولة حديثة تتجاوز كل مظاهر الظلم والطغيان والاستبداد الذي عانى منه الشعب على مدار 4 عقود؟