يتشكل سؤال قابلية النص الإبداعي للتداول المبهر والانجذاب الانطباعي التذوقي وكذلك النقدي على أرضية عمادها فاعلان منعتقان ماديا لكنهما في التمظهر النهائي يبدوان منسجمين ومشتغلين وفق خارطة واحدة فلكل منهما أدواته التي تنحت وتلون وتضيف إلى النص جماليات أخرى ليس له أن يبديها على سبيل العفو، ذانك هما المبدع نفسه زارع حقل الكلمات وناظم أحجارها الثمينة، والقارئ البعيد القريب ناصب خيمة المعاني ومالئ بياضات النص التي ودعها المبدع قصدا أو طبيعة حالة دخوله في حضرة نصه وعلى ذلك كله يسوس السؤال نفسه متقدما في وجه المتلقي: أي فتنة يمكن للنص أن يخبئها؟ ما ملامحها، وإلى أي مدى هي تبعث على مزيد من الغوص والتعمق واستكناه الأغوار؟ هنا فحسب ليس لجواب أن يتأتى دون نص فاتن يقرر فتنته قارئ عاد للتو من أغواره مكللا بأزاهير الانتصار وحيازة المبتغى ولهذا فالنص الإبداعي ما يفتأ يخبئ لقارئه ما لا يتوقعه من هدايا الكشف والتنوير والصقل حتى وإن اختلف معه لكنه اختلاف العمق لا السطح الظاهري الذي من أهم صفاته أن يخفي ويخاتل أكثر مما يبدي ويبوح.
واتساقا مع هذه القراءة نلحظ أن الأعمال السردية المبدعة مثلا ينتصب قوامها على بنيتين أو أكثر مما يسمى البنية السطحية التي تعطي دلالة على أجواء الأحداث ومناطات نشوئها وتناميها وسمات شخوصها، وما يحيط بها من أزمنة مختلفة والبنية العميقة التي تتعمق تبعا لما يتأسس النص عليه من رؤى وأفكار ومنطلقات وأسرار لا تلبث أن تتجدد وتنبعث كلما حصد ثمارها قارئ حصيف وهنا تكمن فتنة النص المنشودة لكل بحسب ما يلتذ به إذ لكل نص لذته كما يقول "رولان بارت" ليتأكد أن نصوصا تتحجب عن قرائها حين لا يكونون على النمط الذي يمكنهم تلقيها بما يحوزونه من أدوات قرائية رتيبة ونسقية.
الشعر كذلك تفعل موسيقاه وقاموسه اللفظي وتهويماته الدلالية، يجذب بها متذوقه إلى عوالم متداخله لا يلبث أن تتشعب به ألوان طيفه فلا يجد سوى اللذة اللحظية فيما لو أمسك زمام التلقي الحصيف لحصل على ما هو أبعد من هذا مما لم يحط به الشاعر نفسه والمبدع الفنان عموما ولم يكن في حسبانه.
إنها الشراكة بلا عقد بين مبدع أتقن فنه ثم قدمه، وقارئ يتحسس معالم طريقه باتجاه الكنز المخبوء كيما يحوز الفتنة الممتدة كما يحدث معنا دائما حين نغادر نصا ولمّا ننعتق منه بعد.