يقول النعمان بن أبي الثناء في كتابه "الإصابة في منع النساء من الكتابة" ما نصه: "أما تعليم النساء القراءة والكتابة فأعوذ بالله، إذ لا أرى شيئا أضر منه بهنّ، فإنهنّ لما كن مجبولات على الغدر كان حصولهن على هذه الملكة من أعظم وسائل نشر الفساد، وأما تقدر المرأة على تأليفه بها، فإنه يكون رسالة إلى زيد ورقعة إلى عمر، وبيتا من الشعر إلى عزب، وشيئا آخر إلى رجل آخر.."، وجاء على لسان الراغب الأصبهاني: "لا يعلّم المؤدّب الخط امرأة ولا جارية؛ لأن ذلك مما يزيد المرأة شرا، وقيل إن مثل المرأة التي تتعلم الخط مثل حية تُسقى سما"، وهناك من هو أقل تشددا فيرى أن ترك تعليم المرأة الخط أصوب "لما عسى أن تستعين به على فساد"!.
الأقوال السابقة عن تعليم المرأة قد يستهجنها ويستغربها الناس اليوم، مع أن هذه النظرة كانت هي السائدة في الماضي، وكان عدد من الفقهاء ورجال الدين يتبنى هذه الرؤية ويدافع عنها.
إن تلك الحجج التي أدلى بها الفقهاء حول تحريم تعليم المرأة القراءة والكتابة هي في الواقع حجج ظاهرية، وهم يدركون أنها لا تنافي الدين.
إن أخوف ما يتخوفون منه في الواقع، هو ما قد ينتج عن تعليم المرأة من آثار تؤدي إلى زحزحتها عن موقعها في البناء الاجتماعي والقيم التي اعتاد عليها الناس، إضافة إلى التصور الذهني إلى المرأة، والمتمثل في أنها باب الغواية ووسيلة الشيطان، وبالتالي فإن فكرة تعليمها تفتح بابا واسعا للتواصل مع الآخرين خارج إطار الأسرة من خلال كتابة الرسائل والشعر، عندها سوف تقع في الفتنة والرذيلة لا محالة!.
وفي وقتنا الحاضر لم يتغير الحال عن الماضي، فأية فكرة جديدة أو تطور وتغير اجتماعي يتعلق بالمرأة، يخشاه بعض الفقهاء ورجال الدين، بنفس المنطق والمنهج القديم الذي يعتمد على تضخيم السلبيات، وإثارة المخاوف التي قد تصاحب هذا التغيير، ويستندون على ذلك بقاعدة فقهية فهمت خطأً وهي "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"، والوصول إلى نتيجة قطعية ونهائية وهي المنع، وإغلاق الموضوع من أساسه من باب "سد الذرائع"، وبالتالي الحد من نشاط المرأة التنموي والمشاركة في المجتمع، وكما يقول المثل الإنجليزي: "يجعلون العربة أمام الحصان".
قبل أسابيع نشرت الوسائل الإعلامية دراسة ماجستير أجازتها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ترى أن عمل المرأة "كاشيرة" يعد من الاتجار بالبشر، لما فيه من الاختلاط وتعرض المرأة للفتنة، وشددت على أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، وهذه الدراسة في رأيي تتشابه إلى حد ما، مع الآراء التي ذكرتها آنفاً حول تعليم المرأة القراءة والكتابة، فالعامل المشترك بين هذه الدراسة والآراء السابقة هي الاستناد على المخاوف، وتضخيم السلبيات التي قد تكون غير موجودة، وذلك لحداثة التجربة لعمل المرأة كاشيرة في بعض المحلات التجارية.
والمختلف في الدراسة السابقة، أنها اتخذت شكلا جديدا تتناسب مع متطلبات العصر الحديث، في كونها بحثا ودراسة علمية، وبالتالي تدعم الآراء القائلة بمنع المرأة من العمل في المجال الاقتصادي لما فيها من مفاسد، وتكون أكثر إقناعا للناس.
لا أخفي على القارئ الكريم، بأني لم أطلع على تفاصيل تلك الدراسة، ولكن اطلعت على أبحاث ورسائل دكتوراه مشابهة، تتعلق على سبيل المثال بالاختلاط في المستشفيات، وقد لاحظت على مثل هذه الأبحاث أنها لا تراعي في دراسة المشكلات نسبة التزايد في السلبيات والإيجابيات، فالمفاسد والانحراف الأخلاقي لا ينشآن عن سبب واحد، وليس هناك من يستطيع القضاء عليهما تماما، وبالتالي فإن الباحث يسعى إلى تخفيض نسب تلك السلبيات لا في سبيل إزالتها، كما أن التوصيات تكون في الغالب مثالية جدا ولا يمكن تطبيقها على أرض الواقع.
كما يلاحظ أيضا على مثل تلك الأبحاث أنها تدعي التزام صاحبها بأساسيات ومنهجية البحث العلمي، والباحث في الحقيقة لا يخرج عن عقائده المذهبية الموروثة، بل حتى إن الفرضيات التي يضعها في البحث ما هي إلا محاولة لبرهنة صحتها مسبقا كدليل وبرهان على صحة آرائه ومعتقداته.
وبناء على ما سبق فإني أتساءل حول نتيجة الدراسة السابقة، والمتمثلة في أن عمل المرأة كاشيرة يعد نوعا من الاتجار بالبشر، فهل استند الباحث على وجود مشكلة وظاهرة فعلية لاستغلال المرأة في هذا المجال بالمملكة، وما النسب الإحصائية لهذه المشكلة؟، وكيف يمكن التقليل من آثارها السلبية ونسبتها؟ وهل اطلع الباحث على تجارب الدول الأخرى لحل هذه المشكلة؟ أم أن الباحث استند على أقوال وآراء فقط لا على وجود مشاكل حقيقية يعاني منها المجتمع، كقول أحدهم: "وسارت المرأة في طريقها المحتوم، تبذل نفسها للراغبين وتعمل في المصنع والمتجر وتشبع رغائبها عن هذا الطريق أو ذاك.."؟، ويا ترى لو أن نتائج البحث جاءت على العكس من ذلك، وذكرت إيجابيات عمل المرأة كاشيرة في الأسواق التجارية، فهل يتم إجازتها من قبل الجامعة؟.. أشك في ذلك.
إني لا أنكر على أي حال ما لعمل المرأة بشكل عام من مساوئ وسلبيات، ولكن هذا لا يمنعنا من الاعتراف بمساوئ عدم عملها أيضا، أو الاعتراف بالإيجابيات، فليست هناك ظاهرة تخلو من إيجابيات أو سلبيات، والمرأة إنسان كالرجل لها الحق في أن تعمل كما يعمل، وتتعلم كما يتعلم، وتعيش كما يعيش. والتحدي الحقيقي هو العمل على زيادة الإيجابيات والتقليل من السلبيات، وهذا هو المعنى الحقيقي في رأيي لقاعدة "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح".