مللنا السياسة وتقعر السياسيين وخبرناهما دهوراً، وأنفقنا الكثير من العمر في مجاراتهما ولم نحصد من حقولهما إلا الانقسامات وتفكيك الأوطان وإشعال الحرائق.
أبلغ السياسيين حديثا عن الحريات أكثرهم إقبالاً على السياط حين تضعهم الأقدار في موقع المسؤولية.. وأشد السياسيين حماساً في ميدان الدعوة وإطلاق الموعظة أقلهم تمسكاً بالمبادئ العقدية التي تنزلت بها رسالة السماء.. وأشدهم حماساً للوحدة وولهاً بواجباتها الشرعية والوطنية والقومية أسرعهم تفريطاً بضمانات ترسيخها ومقومات استمرارها وشروط الحفاظ عليها من موبقات السيطرة ونزعات القيد وهوس الاستئثار والهيمنة.
لهذا فالسياسة وأداءات نخبها العتيدة تنتج الفيروسات القاتلة وتصيب مواطنينا بالأمراض المعدية وتجهز على ما تبقى في صحراء العمر من آمال فتية وتطلعات عفوية للعيش بكرامة أو الموت دون صاعق سياسي!
وإزاء مثل هكذا وضع لا مندوحة من التفكير في أحد خيارين أحلاهما مرّ.. إما الحجر على السياسيين ووضعهم رهن إقامة جبرية في إحدى الجزر النائية أو البحث عن أوطان بديلة وعوالم غير مأهولة بكائنات سياسية تعزف على أوجاع الناس وتعتاش على المكر وتزيين وعي الشعوب.
كم كانت ثورات الربيع مفعمة بالصدق ومثاليات المجتمع المقهور الذي يبحث عن ذاته المسحوقة وعن معطيات واقعية للإحساس بقيمة الحياة وسعادتها.
كان هذا شأن الثورات في الوهلة الأولى لانطلاق شراراتها.. لم تكن هراوات النظم المخلوعة مخيفة ولا الرصاص الحي مروعاً، فالشوارع المكتظة بمجنزرات الطغاة تمور بعشرات الألوف من المواطنين التواقين إلى معنى الحياة كما هو شغفهم للموت بشرف دفاعاً عن النفس وتحريراً لإرادة مستلبة ووطن مصادر وثروات مؤممة، وخلسة هرع الفيروس السياسي إلى ساحات التغيير حاملاً مسوح الرهبان وحيل الثعالب، وبدلاً من مضيّ طوفان الثورة نحو غاياته غدت الساحات مرتعاً للصراع ومكاناً لرسم المحاصصات وتقاسم واقتسام الغنائم، بل غدت الوسيلة الملائمة لإنقاذ الاستبداد والحفاظ على جيناته وفك الارتباط بين جوهر الثورة ومظهرها.
وفي معرض تشويه وعي الشعوب وتسطيح رؤيتها لمكامن الخلل استوقفتنا طائفة من القراءات الموجهة لأغراض التبرير واختلاق الذرائع ومحاولات التستر على عوامل إجهاض قضية التغيير، وعلى هذا الصعيد ينبري البعض لتعليق مسؤولية الإعاقة على كاهل المستبد المخلوع وكأن شيئاً لم يحدث، أو أن ثورات الربيع لم تقم من حيث الأساس أو لكأن من بين أهداف الثورة إحياء المستبد واستخدامه شماعة للإفلات من تبعات ترويض الثورة على التعايش مع إرث الاستبداد. والحال أن هذا الأمر لم يكن ليأخذ هذا المنحنى الخطير من التراجع لولا الانشغال بالسلطة واللهاث على فتاتها والتعثر بمكاسبها الذاتية والنزول عند مغرياتها على حساب وظائفها واعتبارها المعادل الاستراتيجي للثورة.
والناظر في تقلبات الأوضاع الداخلية لبلدان الربيع العربي يدرك الوجوم التام تجاه تجاذبات القوى التقليدية المعيقة لمسار التغيير والمحكومة بمنطق وثقافة الارتهان للماضي.
في اليمن مثلاً يتحدث الرئيس عبدربه منصور هادي عن ضرورات المشاركة السياسية الواسعة في الحوار الوطني، ويدعو مختلف مكونات المجتمع إلى طي صفحة الماضي وفتح سجل جديد ليمن جديد ومستقبل وضاء.. فعلى أي شاكلة ستكون استجابة القوى السياسية المستعصية على التغيير والتغير؟ إنها تبتكر الإعاقة.. إما باللجوء لمناسبات استعراضية تبعث روح الشقاق والفرقة أو باستثمار ردود الفعل وتأجيج نزعة الكراهية وتمويل الحركات الانفصالية فيما لا يلوح في ذهن طرفي المعادلة الصراعية أي أفق للمستقبل ولا يبدو في ممارساتها أثر يعكس روح ثورة مهددة بالشيخوخة المبكرة!
لقد كان واضحاً أمام مختلف الأطراف حاجة البلاد إلى مناخات إيجابية تساعد على تهدئة فورات الغضب الجامح لدى قطاع واسع من أبناء المحافظات الجنوبية، فلماذا قرر البعض صب الزيت على نزف المشاعر الملتهبة؟ ولماذا ـ وقد علم هؤلاء يقيناً حجم الاستخدامات الإيرانية وطبيعة المواجهة التي يخوضها الرئيس هادي مع الأنشطة التخريبية المعادية للوحدة ـ أشعلوا عود الثقاب؟ ومن قال لهؤلاء إن الالتفاف حول رئيس الدولة المنتخب يتطلب تأليب الخصوم ضده ووضع المزيد من المصاعب في طريقه؟
حقيقة لو كان بيد الرئيس السابق أن يستهدف الروح الوحدوية لخلفه ما زاد شيئاً على ما أقدم عليه خصومه في المعارضة. ولهذا قالت العرب (عدو عاقل خير من صديق جاهل)؟