كانت الأسابيع القليلة الماضية صعبة وقاسية على الجميع من بعد كارثة الطفلة رهام وما رافقها من أخطاء طبية أخرى في مناطق مختلفة. لم تكن صعوبتها محصورة بالحادثة فقط وإنما تجاوزتها لتساؤلات كئيبة عديدة عن النظام الصحي في المملكة وفاعليته وأمانه وهل حان الوقت لإعادة هيكلته، خاصة وأن تضخمه الحالي عجز عن ضمان عدم حصول إحدى بدهيات الطب الحديث في الدول المتقدمة وهي عدم نقل دم ملوث بفيروس نقص المناعة المكتسب.
ومع ذلك فإن الأمل بوزارة الصحة الكيان المهم والحساس والقلب النابض لأي دولة ما زال على قيد الحياة طالما أن الدول الأخرى المقاربة لميزانيتنا الصحية قد أوجدت حلولا مع أنها ليست محط اهتمام مباشر من قادتها على عكس ما تحظى به وزارة الصحة لدينا من دعم متواصل من قبل الملك حفظه الله.
قامت المملكة المتحدة في 1999 باستحداث أول ثلاثة مناصب صحية في مبادرة لتحسين الخدمات الصحية بشكل شمولي يتجاوز المستشفيات والعيادات والمدن الطبية. قامت وزارة الصحة البريطانية بالإعلان عن ثلاث شواغر بمسمى "قيصر" ووظيفته تتمثل بكونه المدير السريري الوطني لأحد التخصصات الصحية على مستوى المملكة المتحدة. تم الإعلان عن الوظائف بشكل شفاف وتنافسي ليتم اختيار أول ثلاثة قياصرة لمرض السرطان، وأمراض القلب وطب الطوارئ. يقوم المدير السريري الوطني، القيصر، بتنفيذ الاستراتيجية الوطنية الخاصة بالتخصص المناط به، أو العمل على إيجادها، ويعد قائد الإصلاح الصحي في مجاله. هؤلاء المدراء القياصرة هم الضامن لجودة الخدمات المقدمة في التخصص الصحي الذي يشرفون عليه عن طريق الربط بين صناع السياسة الصحية الخاصة بالمرض والطواقم الصحية التي تقدم الخدمات للمرضى المصابين به أو لأشخاص عرضة له والمجتمع واحتياجاته عبر رصد الرأي العام والاستجابة له ومن ثم تسجيلها لقياسها مع المعايير الصحية الوطنية لهذا المرض أو ذاك ومدى قربها من الأهداف المحلية والعالمية.
وصل عدد المدراء السريريين الوطنيين في المملكة المتحدة إلى أكثر من عشرين قيصرا في مختلف التخصصات من: ضعف الذاكرة، والسكري، والأطفال، والنساء والولادة، وغيرها حتى إن المعلوماتية الصحية لها قيصر!
مر أكثر من عقد على وجود هؤلاء القياصرة وبدأت المملكة المتحدة بجني ثمار استثمارها في خروجها عن النمط المعتاد لأداء الوزارات حينما شخصت أن العلة ليست في ربط الخدمات الصحية حسب مرجعيتها البنائية أو الإدارية وإنما الخلل في غياب خدمات واستراتيجيات مفعلة تتمحور حول أبجديات الصحة: المريض ومرضه.
النظام الصحي السعودي يشابه نظيره البريطاني في كونه نظاما وطنيا، ويخالفه في جودة خدمات الأخير والتي تم قياسها ورصدها بشفافية معلنة في صفحة وزارة الصحة البريطانية. هذا التشابه الوطني يعني أنه من السهل تبني فكرة المدير السريري الوطني في التخصصات المختلفة ولعلنا نتفوق على المملكة المتحدة بأن يتم ربطهم بمجلس الخدمات الصحية حتى نضمن لهم الاستقلالية ويصبح من السهل توسيع نطاق عملهم مستقبلا ليشمل بقية القطاعات الصحية غير التابعة لوزارة الصحة. ربط هؤلاء القياصرة بوزارة الصحة سيدخلهم في دوامة المركزية الحالية ولا نريدهم نسخا مكررة من مدراء صحة المناطق وخاصة أن عملهم تحت مظلة مجلس الخدمات الصحية سيمهد لاستحداث هيئة أو قسم خاص بهم متى تمت الموافقة على تحويل المجلس لمجلس أعلى للخدمات الصحية أسوة بنظرائهم من الهيئات والأقسام الصحية الوطنية والتي من المفترض أن تفصل حينها عن وزارة الصحة والقطاعات الصحية الأخرى كهيئة وطنية لبنوك الدم وهيئة وطنية للصحة العامة وغيرها.
يذكر أن من أهم إنجازات القياصرة هو ما قام به أحد قياصرة طب الطوارئ حيث حقق هدف الوصول إلى أن 98? من مرضى الطوارئ في المملكة المتحدة كافة يتم فحصهم وتشخيصهم واتخاذ قرار بشأن علاجهم من تنويم أو تحويل أو خروج خلال أربع ساعات أو أقل من لحظة دخولهم لقسم الطوارئ، وما زالت هذه السياسة قائمة حتى الآن. أما قيصر أمراض القلب والجلطات الدماغية فقد استطاع أن يخفض معدل الوفيات الناتجة عنها بنسبة 44? مقارنة بعام 1995 لمن تبلغ أعمارهم 75 أو أقل خلال عقد واحد فقط ولم يكتف بذلك بل استصدر الاستراتيجية الوطنية للجلطات الدماغية في 2007.
يجتمع قياصرة التخصصات الصحية المختلفة في المملكة المتحدة شهريا وشعارهم الجودة والسلامة ونحن ما زلنا نغفو ونصحو ولسان حالنا يا الله السلامة.