الجدل الذي أحدثه قرار وزارة العمل المتعلق بفرض رسوم إضافية على العمالة الوافدة، ينبغي أن تتعامل معه الوزارة بشيء من التأمل والأناة والحكمة، وأن يكون محطة توقف للمراجعة والتقييم وإعادة النظر في الخطط والبرامج وفرق العمل القائمة عليها، فالوزارة خلال السنوات الماضية أطلقت العديد من البرامج والمبادرات المرتبطة بسوق العمل والتوظيف، ومن الواضح أن بعض هذه البرامج والقرارات لم تحظ بما تستحقه من الدراسة والتمحيص أو على الأقل لم تراع الجوانب والتأثيرات السلبية المحتملة التي يمكن أن تترتب على تنفيذها إن على مستوى قطاع الأعمال خاصة المنشآت الصغيرة الجادة أو على مستوى المجتمع بأكمله لجهة ارتفاع أسعار الخدمات والمنتجات، أو حتى على مستوى الجدوى والأثر الفعلي لهذه البرامج على التوظيف الحقيقي للعمالة الوطنية. ويقتضي الإنصاف الإشادة بالجهود التي تبذلها الوزارة في هذا المقام وهي جهود لا يمكن المزايدة على إخلاصها وصدقها ولكن يمكن التحاور حول الرؤية التي تقف خلفها أو بتعبير أدق حول فريق العمل الذي يتولى صياغة وتقديم الأفكار والمقترحات ومدى إلمامه ومعرفته وخبرته بالجوانب المتعددة لقضية العمالة وسوق العمل، فالواضح أن هناك نقصا في الرؤية تجاه الجوانب المتعددة للسوق والتوظيف والاستقدام وأبعادهما المختلفة.
وفي تقديري فإن التعثر الذي يقابل بعض مبادرات وبرامج الوزارة يعود في الجانب الأكبر منه إلى خلل في الرؤية والتشخيص لمشاكل واقع السوق وهو ما ينتج عنه خطأ في المعالجة والحلول، فالاختلالات والعلل التي يعاني منها سوق العمل والعمال في المملكة تحمل صبغة محلية يتداخل فيها السياسي بالثقافي بالاقتصادي، بمعنى أدق فإن هذه التشوهات متشابكة وشديدة التعقيد فهناك مشاكل تتعلق بالعمالة الوافدة النظامية وهناك أمراض تخص العمالة الوافدة غير النظامية وهناك سلبيات أخرى ترتبط بالعمالة الوطنية، كما أن هناك ثغرات تتصل بتنظيمات السوق وقوانين العمل، ناهيك عن وجود معوقات ترتبط بالفضاء الاجتماعي ومثلها تتصل بمؤسسات التدريب والتعليم وهكذا فإن جزءا هاما من المعالجة الناجعة لمشاكل هذا السوق تكمن في التشخيص الدقيق للمشاكل وأعراضها وأبعادها وآثارها، والعمل على تجزئة وفرز هذه المشاكل وإعطاء الحلول والمعالجات الواقعية والناجعة لكل مشكلة على حده مع مراعاة تأثيرها على الجوانب الأخرى، بحيث تستطيع الوزارة تنفيذ المعالجات في خطوط متوازية، مع وضع وتشريع برامج وقرارات مختلفة الفترات الزمنية، بعضها على المدى القصير وأخرى على المدى المتوسط وثالثة على المدى البعيد وفق منظومة تخطيطية متكاملة تقوم على رؤية واضحة وتشخيص دقيق ومعرفة كاملة بالمؤثرات والأعراض والآثار والنتائج.
طبعا أُدرك أن الكلام التنظيري سهل وأن واقع السوق وتداخلاته معقدة ومتشابكة، ولكني أعِي في الوقت نفسه أن القضية أكبر من الأشخاص وأسمى من المصالح الضيقة، وهذا ما يضاعف المسؤولية والأمانة على مسؤولي الوزارة ويضعهم في محك صعب أمام مسؤولياتهم التاريخية تجاه الوطن وحقوقه والأجيال القادمة، فالمسألة ليست اصطفافات وتحزبات مؤيدة ومعارضة للوزارة وإنما هي مصلحة عامة تتعلق بحاضر ومستقبل هذا الوطن ولا يجوز بحال من الأحوال نقلها من هذا المربع إلى مربع آخر يقوم على المناكفات والتبريرات والأرقام غير الواقعية، فلا يعيب المسؤولين في الوزارة مراجعة وإعادة النظر في كامل الاستراتيجية المتعلقة بالموارد البشرية بما في ذلك برامج صندوق تنمية الموارد البشرية وعلاقة مصروفاته الحالية والمستقبلية بالتوظيف الحقيقي للعمالة الوطنية.
الوزارة الآن وبفضل تجربتها النوعية وتنفيذها برنامج "حافز" بكل ما حمله من رؤية واضحة وما تبعه من ضبط وتشديد في تحديد السعوديين من الجنسين الذين تنطبق عليهم "البطالة"، تستطيع الشروع في تبني خارطة طريق واضحة لا تقوم على استعجال النتائج وحرق الأزمنة وإنما تنبني على عمل مهني احترافي يعتمد على دراسة موسعة ومستفيضة لواقع السوق ومشاكله وللنمو الاقتصادي ولطبيعة المرحلة الحالية وتوقعات المراحل القادمة، بحيث تعمل هذه الخارطة على جانبين أحدهما تقليص الاستقدام إلى أدنى درجة ممكنة، والثاني إيجاد فرص عمل فعلية للعمالة الوطنية وتشمل هذه الفرص العمل الحر من جهة والتوظيف في القطاع الخاص من جهة ثانية مع ضرورة الإيمان الكامل بمسألة التوظيف الفعلي وليس التوظيف الرقمي، فارتفاع أرقام التوظيف في القطاع الخاص لا ينبغي أن يكون هدفا بحد ذاته وإنما ينبغي أن يتركز الهدف في التوظيف الفعلي الذي ينتقل بالمواطن من حالة "البطالة" إلى حالة "العمل والشغل" بمعنى أن يصبح المواطن قيمة إنتاجية مضافة سواء في وظيفة أو في عمل حر.
والمطلوب من الوزارة في هذه المرحلة التركيز على تجفيف منابع التستر التجاري ومحاربة العمالة الضارة، وهناك الكثير من الأفكار في هذا الاتجاه، فالتستر مثلاً يكثر ويزداد في بعض الأنشطة ومنها نشاط "البقالات الصغيرة" التي تصل أعدادها إلى أرقام كبيرة، فإذا اتفقنا على أن "البقالات" هي إحدى بؤر التستر - وهذا جزء من التشخيص الدقيق لمشكلة التستر - فهذا يستلزم السعي إلى وضع المعالجة الناجعة لهذا النشاط تحديدا، ويمكن في هذا المقام أن تصدر الوزارة قرارا آنيا وفوريا بمنع وإيقاف الاستقدام على التراخيص الجديدة الخاصة بهذا النشاط "بيع المواد الغذائية" لأي منشأة تقل مساحة مقرها عن 400 م مربع، مع إعطاء مهلة للبقالات القائمة لمدة خمس سنوات من صدور القرار، فهذا القرار سيحقق حزمة من المزايا ويقضي على جملة من السلبيات دون أن يكون له أثر سلبي مباشر على المواطن وعلى أصحاب الأعمال الجادين، فهذا القرار البسيط شكلا سيؤدي إلى آثار إيجابية كبيرة فهو من جانب سيؤدي إلى تخفيض الاستقدام بمقدار الأعداد المستقدمة لهذا النشاط سنويا، ومن جانب آخر سيؤدي إلى توجيه فرص النمو في هذا النشاط إلى العمالة الوطنية ويفتح فرصا جديدة للعمل الحر في نشاط لا يحتاج إلى رأس مال كبير ويمكن ممارسته في أي حي من أحياء مدننا.. طبعا بالنسبة لمحلات التموين الغذائي الكبيرة هي في الغالب تتبع لمنشآت متوسطة وكبيرة وبالتالي تخضع للنسب وسعودة وظائف "الكاشير" وغيرها، وبالتأكيد فإن مساحة المقال لا تسمح بالتفصيل في عرض أفكار أخرى والتوسع في شرحها، لكن المقصود هو أن هناك الكثير من القرارات التي يمكن للوزراة تبنيها في خطوط متوازية ستؤدي ولو بعد حين إلى تحقيق الأهداف المرجوة.
ويقتضي الإنصاف الإشارة إلى أن هناك قرارات هامة ومؤثرة نجحت الوزارة في تفعيلها وآتت أكلها ومن أهمها ربط احتساب العامل الوطني بالاشتراك في التأمنيات الاجتماعية عن طريق المنشأة الموظِفة، إضافة إلى تحويل الراتب مباشرة في حساب الموظف السعودي، مع وضع حد أدنى للأجر المحتسب ضمن السعودة. هذا النوع من الإجراءات والقرارات الإيجابية يمكن البناء عليها بحيث ننتقل من السعي إلى توطين الوظائف بالأرقام والإحصائيات إلى التوظيف الحقيقي الفعلي، فأن تنجح الوزارة في تسهيل وتهيئة فرص عمل حقيقية وفعلية لعشرة مواطنين خيرا من أن تنجح في توظيف 100 مواطن أو مواطنة في وظائف تكميلية ووهمية في شركات كبيرة هدفها من التوظيف استقدام المزيد من العمالة الوافدة.