لماذا يتبرم المواطن السعودي من العمل أو الدراسة خارج منطقته التي وُلد فيها، في حين يسعى بكل جهده للحصول على بعثة تُبعده آلاف الكيلومترات عنها؟ ولماذا يُحجم عن الانتقال للعمل أو التجارة أو الدراسة في مدينة غير مدينته داخل المملكة؟ ولماذا تتحاشى بعض المؤسسات والشركات الوطنية توظيف مواطنيها؟ كيف أصبح أبناء الوطن الواحد إخواناً وأصدقاء ألداء؟
يُعتبر توحيد المملكة العربية السعودية في عام 1932م (1351هـ) أحد أهم الإنجازات في التاريخ الحديث، حين تم تكوين دولة حديثة مترامية الأطراف انصهرت فيها عدة كيانات صغيرة كانت قبل ذلك في حروب وتناحر وخصام. ولم يكن تحقيق ذلك الإنجاز بالأمر السهل، إذ استغرق نحو ثلاثين عاماً من العمل الشاق الدؤوب، تخللتها الكثير من الحروب. ومن أهم نتائج ذلك المشروع التاريخي صهر هوية وطنية واحدة على مدى الثمانين عاماً الماضية، أعطت الدولة الجديدة وزناً ودوراً أكبر مما كان ممكنا لو ظلت تلك الكيانات على تشرذمها وخلافاتها وحروبها.
وقد قامت الجامعات، ومؤسسات التعليم بشكل عام، بدور كبير في تحقيق هذا الإنجاز التاريخي، ففي المرحلة الأولى، بعد تأسيس الدولة، كانت المدارس المتقدمة في مكة وجدة والطائف مقصداً للطلاب من جميع أنحاء المملكة. وبالإضافة إلى تأهيلهم علمياً، أنتجت هذه المدارس أجيالاً من الشباب المنتمين قلباً وقالباً للدولة الجديدة، وذابت بينهم الفروق الإقليمية. ثم لعبت الدور نفسه مؤسسات تعليمية أخرى مثل جامعة البترول وجامعة الملك سعود، حين استقطبت طلاباً من جميع أنحاء المملكة العربية السعودية، وساعدت في الوقت نفسه في تعزيز هذه الهوية الوطنية الموحدة. وساهمت الشركات العملاقة مثل أرامكو في هذا المجال، كما ساهمت فيه بالطبع الكثير من الأجهزة الحكومية التي عملت على تعزيز الترابط بين المواطنين في مناطق المملكة المختلفة.
وبطبيعة الحال كانت هناك خلال تلك المسيرة أصوات نشاز من بعض المسؤولين الذين لم يتشربوا الفلسفة التوحيدية الجديدة، وظلوا يعزفون على أوتارهم الإقليمية الضيقة. فتجد قلة من الدوائر الحكومية والشركات العامة والمؤسسات الخاصة، تفضل أبناء منطقة بعينها، وتثبط رغبة أبناء المناطق الأخرى في الانضمام إليها. وفي حالة نجاحهم في الانضمام، تبدأ جهود خفية، ولكنها فعالة، في إبعادهم وتهميشهم.
ولكن تلك الحالات كانت استثنائية ومحصورة في مصالح أو مؤسسات محدودة، وكانت مرحلة تم تجاوزها.
من المستغرب اليوم – بعد نحو ثمانين عاماً من قيام الدولة الموحدة - أن تجد البعض ما زال يحس بأنه غريب في وطنه. ولنفكر في بعض الظواهر والمواقف اليومية التي يجب أن تثير قلقنا وتدفع إلى حوار وطني يسعى إلى تشخيص أسبابها والتوصل إلى حلول لها:
- لماذا ما زال بعض أصحاب المؤسسات والشركات الوطنية يتفادى توظيف المواطنين من خارج مناطقهم، مفضلين الأجانب؟
- لماذا يتهرب بعض أصحاب العقار من تأجير عقارهم على مواطني المناطق الأخرى؟
- لماذا يتلقى كل مسؤول تقريباً طلبات لا تنتهي للتوسط والمساعدة في نقل موظفين يعملون خارج مدينتهم لمساعدتهم على "العودة" إليها.
- لماذا يعزف معظم الطلبة عن "الاغتراب" في الدراسة في جامعات سعودية خارج منطقتهم التي يقيمون فيها، "لأنهم يفضلون أن يكونوا قرب عائلاتهم"، في حين يسعون بكل جهودهم – وبالواسطة – إلى الحصول على بعثات تأخذهم إلى أطراف المعمورة؟
- لماذا تصف بعض جامعاتنا الطلبة من خارج منطقتها بالمغتربين، بل أشار أحد المسؤولين مؤخراً إلى أن جامعته (الحكومية) تدرس إمكانية وضع حد أقصى لنسبة الطلبة الذين يمكن قبولهم من خارج المنطقة؟
- لماذا يفضل السائح السعودي السياحة الخارجية على السياحة الداخلية؟
وربما كانت هناك أمثلة كثيرة من هذا القبيل. ومن السهل لوم صاحب العمل أو الطالب أو الموظف ووصفهم بقلة الوعي الوطني وما إلى ذلك، ولكن هذا اختزال لا يفيد في تقديم حلول لمشكلة قد تكون أكثر عمقاً مما يبدو. ومن المهم أن نحاول معرفة الأسباب الكامنة وراءها، ومحاولة علاجها.
وربما كان من أخطر هذه الظواهر أن كثيراً من مراجعي الدوائر الحكومية يفترضون أنهم بحاجة إلى توسيط أحد معارف أو بلديات صاحب القرار لكي يحصلوا على الجواب المطلوب، خاصة في القضايا الشائكة أو الخلافية. فمثل هذا الاعتقاد دليل على ضعف الثقة في حيادية المسؤول أو الدائرة. وعلاج ذلك لا يكفي فيه أن نؤكد للمواطن حيادية المسؤولين ونزاهتهم، بل يجب العمل على كسب هذه الثقة عن طريق خطوات عملية واقعية.
ويمكن أن يتم ذلك عن طريق وضع إجراءات شفافة وواضحة لكل مصلحة حكومية، وفي الوقت نفسه إنشاء مراكز وإدارات في كل مصلحة تتولى متابعة أعمال المواطنين وتؤكد لهم بالأفعال لا الأقوال حيادية كل موظف، بصرف النظر عن منطقة المراجع الجغرافية أو مذهبه الديني.