في مساحة لا تتجاوز 10 كلم2، اجتمعت لغات الأرض، وأصبح اللسان مهما بلغ "بيانه" يعجز عن الإيضاح، فجاءت الحاجة لتحقق "الاختراع"، وحلت "قسرا" لغة "الإشارة" المبتكرة كأفضل لغة تخاطب حديثة فرضها الموقف، واستخدمها الحجاج للحديث فيما بينهم على اختلاف لغاتهم، بل وأتقنها رجال الأمن وموظفو الخدمات الذين لا يتركون الحاج حتى يبلغ مقصده، ويفهمون ما يريد ولو بالإشارة، ويحققون رغبته ويجيبون على تساؤلاته بـ"الإشارة" أيضا.
وكما يقول المثل "اللبيب بالإشارة يفهم" اعتاد رجال الأمن وموظفو الدولة بالمشاعر على فهم كل ما يريده الحجاج مهما اختلفت لغاتهم، فخبرتهم الطويلة في هذا المكان أكسبتهم لغة جديدة في التعامل مع ضيوف الرحمن ولو بالإشارة، وأصبحت إيماءاتهم تحقق ما عجزت عنه ألسنتهم، فبإشارة يوجهون الحجاج إلى مقاصدهم، فالجميع هنا اضطروا للتخاطب بإشارات كانت هي السبيل الوحيد ليوصل الحاج رسالته لرجل الأمن أو الكشاف من أجل مساعدته، وهي أيضا ما تحتم على الآخرين الرد بمثلها.
"الوطن" وقفت أمام حالات تخاطب حية وكثيرة بين رجال أمن وموظفي خدمات وحجاج، ورصدت إتقان "الجميع" لهذه الإيماءات التي أصبحت لديهم لغة متعارفا عليها بحكم المشاركة السنوية بالحج، فأمام رجل الأمن عتيق الحربي وقف حاج آسيوي يتحدث بلغة آسيوية، وظل صامتا يستخدم فقط بعض الإشارات التي لم تكن مفهومة، ولكن سرعان ما تناول الحربي معصم الحاج ليقرأ رقم وشارع مقر بعثة الحجاج، ليعود ويرشده بذات اللغة، فعرفنا أن الإشارة حققت الهدف بين اثنين لا يفهمان لغة بعضهما.
كثير من الحجاج الناطقين بغير العربية وقفوا أمام رجال الأمن وفي أعينهم حديث كثير لا يستطيعون البوح به، لكنهم يستخدمون بعض الإشارات التي توصل رسالتهم لرجال الأمن، فمثلا وضع اليد على الكتف يعني تقديم عبارات الشكر، ورفع اليد على هيئة الرمي يعني السؤال عن موقع الجمرات، ووضع اليد أمام الفم يعني البحث عن موقع لبيع الطعام، وتحريك اليد حول الأخرى بطريقة دائرية يعني السؤال عن أقرب طريق إلى مكة المكرمة، بينما الإشارة إلى المرفق تعني البحث عن أماكن الوضوء.
وتستمر لغة التخاطب التي يفرضها الموقف كلغة جديدة ليس لها منهجية كلغة التخاطب مع الصم والبكم، لكنها أبلغ في تحقيق تواصل بامتياز بين طرفي المعادلة.