كان "جيري ساينفلد Jerry Seinfeld" يقدم عروضه الكوميدية ضمن الكثير من البرامج التلفزيونية الأميركية، لكنه تشجع وقدم عام 1989 الحلقة الأولى من مسلسل كوميدي أطلق عليه: "يوميات ساينفلد"، ولكنه للأسف لم يحقق نسب المشاهدة المطلوبة، حاول "جيري" البحث عن قناة أخرى، ولكن محاولته باءت بالفشل، بيد أنه كان على موعد عظيم مع القدر.
إذ وبعد مرور سنة على عرض الحلقة الأولى، وانتهاء المسلسل الأسطوري "شيرز Cheers"، طلب منه إعادة إنتاج حلقات جديدة من مسلسله، ليحقق وخلال ثلاثة أسابيع أرقام مشاهدة متسارعة، إذ ذهل الجمهور من واقعية المسلسل وتعامله مع أدق تفاصيل الحياة اليومية للعزاب الشباب، في مدينة تحتل مكانة كبيرة في الوجدان الأميركي: "نيويورك". هنا لا بد من التأكيد على ضرورة مشاهدة إحدى أجمل حلقات "ساينفلد"، التي تتناول فكرة تقديم مسلسل عن "اللا شيء" لقناة NBC وكأنما يعيد التاريخ نفسه، ولكن بالكثير من السخرية اللاذعة والقفشات الساخنة حول المديرين التنفيذيين في القنوات التلفزيونية الكبرى.
المسلسل يتمحور حول ما يطلق عليه: الـ "لا شيء About Nothing"، لتحقق هذه الكوميديا الشعبية الأكبر خلال عقد التسعينات، وهو ما يتذكره الإعلاميون والنقاد، كأكثر الأعمال الفنية تأثيرا على أسلوب الحياة والثقافة الأميركية، وذلك بتصدره المذهل نسب المشاهدة الأسبوعية، محققا للقناة أرباحا مالية ضخمة تجاوزت مليار دولار، علما أن المسلسل استمر عرضه تسع مواسم، إلى أن قرر صانعاه "جيري ساينفلد" و"لاري دافيد" إنهاءه في قمة نجاحه الفني والجماهيري.
المسلسل يقتبس أحداثه من يوميات حياة "جيري" نفسه، إذ يظهر في الحلقات كممارس لفن الكوميديا الارتجالية، ويتتبع المسلسل مواقفه وأصدقاءه الثلاثة، والتي تحدث أغلبها في شقته أو مطعمهم المفضل – الذي تحول إلى مزار سياحي حاليا -، ويؤدي "جاسون ألكساندر" دور الفاشل وسيئ الحظ "جورج كوستانزا" الذي تعرف عليه منذ المرحلة المتوسطة، أما الممثلة "جوليا لويس درايفس" فهي صديقته السابقة "إيلاين بينيس" الصريحة إلى حد البذاءة، أما "كوزموكرمير" شخصية المعجبين المفضلة، وغريب الأطوار فيؤدي دوره "مايكل ريتشارد"، أما أجمل و أروع الحلقات التي أنصح بمشاهدتها – مرات عدة!- فهي: حلقات "المطعم الصيني"، "الصفقة"، و"طفل الفقاعة".
قد لا تمل من مشاهدة حلقة ما مرات عدة، والسر يكمن في حرفية الإنتاج، بداية من "الفكرة Concept"، مرورا بفريق الكتابة وتطوير الفكرة، ثم كوكبة الممثلين المحترفين، والأهم إعطاء كل ذي حق حقه، من مسؤول الملابس حتى مشرف الإضاءة، وتعد حلقة "الزبادي المثلج منزوع الدسم" إحدى أشهر الحلقات التي ظهرت خلالها مهارة وحرفية فريق العمل، إذ كان المجتمع "النيويوركي" في خضم معركة الانتخابات لرئاسة بلدية المدينة، وكان من المفترض عرض الحلقة في اليوم التالي لظهور نتائج الانتخابات، وكان سيناريو الحلقة يعتمد على مؤتمر صحفي لرئيس البلدية، يتحدث عن قضية الزبادي المثلج وكونه منزوع الدسم، لذا قرر فريق الإنتاج تصوير نسختين من الحلقة الواحدة، يظهر في كل منهما أحد مرشحي الانتخابات يقدم تعليقه على الموضوع كرئيس للبلدية!، ليتم بعد ذلك عرض مشهد المرشح الفائز! لقد واجه المسلسل الكثير من العقبات، لكن وجود كوكبة مميزة من العاملين كانت خير عون لتجاوز تلك العقبات، بداية من كتاب المسلسل والكتاب المساعدين، والباحثين - وهي وظيفة لا توجد في صناعة الترفيه العربي- ومسوؤلي الملابس والديكور، والأهم من ذلك الجمهور الحي، الذي يحضر تصوير مشاهد الحلقات. وللأسف قارن هذا الجهد الخرافي بالبخل الإنتاجي وفقر مواقع التصوير، بل وركاكة السيناريو والحوار في مسلسل "كلنا عيال قريّة" أو المسلسل السعودي الأشهر "طاش" وكليهما دفعت فيها لأبطال العمل – فقط- ملايين الريالات، وهما بالمناسبة منتجا العمل كذلك!
"أريد أن أنهي المسلسل وهو يعيش مرحلة القوة والنجاح" هكذا صدح "ساينفلد"، عندما أعلن قراره الشجاع لإنهاء المسلسل، وتصدر هذا الخبر العناوين الرئيسة للصحف وأغلفة المجلات، وحاولت شبكة (NBC) إغراءه بعرضها المالي الضخم، والذي بلغ خمسة ملايين دولار عن الحلقة الواحدة! ولكن دونما جدوى، وبالمناسبة وما يزال يحتفظ "ساينفلد" برقمه القياسي كأكثر دخل سنوي لممثل تلفزيوني في التاريخ، أما الحلقة الأخيرة من مسلسله، فلقد شاهدها ستة وسبعون مليون مشاهد، لتأخذ موقعها ضمن أكثر الحلقات التلفزيونية مشاهدة في تاريخ التلفزيون على الإطلاق، لا أحتاج هنا للتذكير بكون أجزاء مسلسل "طاش" السعودي تجاوز الـ18 جزءا، "والحسّابة بتحسب".
محبو سانيفلد لا يكتفون فقط بالحلقات التلفزيونية، لكنهم مهووسون بكل شيء له علاقة به، والأجمل من ذلك أن الشركة صاحبة حقوق البث تساعدهم على ذلك، فهو ربح مالي لها في نهاية الأمر، لذا هناك طيف واسع من التذكارات الرسمية للمسلسل ونجومه، من خرائط بانورامية لنيويورك، حُددت فيها الأماكن التي حدثت فيها وقائع المسلسل مثل المطعم الصيني في الشارع الخامس، شقة جيري، إستاد فريق اليانكي.. وهكذا، إضافة إلى مقاطع صوتية للهواتف الجوالة، صور متعددة للحلقات الشهيرة، صور من جولات فريق المسلسل عبر أميركا، فضلا عن وجود حسابات للمسلسل في شبكات التواصل الاجتماعي.
لقد كانت حلقات المسلسل السعودي الأشهر "طاش" فرصة لا مثيل لها لبناء مسلسل يدر الأموال على صانعيه، ويخلق شخصيات تعيش بيننا، ولكن هذا الأمر يحتاج إلى وجود صناعة ترفيه متكاملة، مع ضرورة وجود نظام يحمي حقوق الملكية الفكرية في المنتجات سواء الوسائط الإعلامية أو حتى المنتجات التذكارية، لقد حفل مسلسل "طاش" بالكثير من الشخصيات المميزة، مثل "حمود" و"محيميد" و"هزار"، التي كان من المفترض أن تتحول إلى واقع نعيشه في حياتنا اليومية، من أزياء ومأكولات وألعاب وغير ذلك، ولكن يبدو أن "الجود من الموجود"... وأن الغلبة سوف تبقى لصناعة الترفيه الأميركية لسنوات قادمة، والله أعلم.