تخيلوا لو أن لدينا هيئة اجتماعية مدنية لتقييم الخدمات الصحية، وأخرى جمعية تعاونية للخدمات الزراعية، ومثلها في التعليم وفي الصناعة والتجارة وفي قضايا المدن والبلديات. هذا لن يمثل حلا سحريا لكل أزمة أو حدث قد تمر به أي من تلك الجهات، لكنه على الأقل سيسهم في تحويل المجتمع من خلال شريحة تعكس تمثيلا نوعيا له إلى شريك في تقييم تلك الخدمة، وممارسة الضغوط الفنية والمهنية الواضحة على تلك الأجهزة أمام أي قصور قد يبدر منها.
الذي يمارس هذه الضغوطات الآن هو الإعلام، وهذا أمر طبيعي وواقعي، لكن الإعلام وحده وبمختلف أشكاله تنهار فيه كثير من المعاني العلمية والمهنية ويبقى الصوت العاطفي الانفعالي، يحدث هذا تحديدا في مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا موقف مهم ومؤثر لكنه ينقصه الكثير من التوجيه والكثير من العلمية.
الشارع في كل مكان لا يمكن أن نطالبه بأن يكون علميا أو منطقيا، بل إن الانفعال هو صفته الأبرز، إلا أن وجود مثل تلك الجميعات الأهلية هو الذي سيقود على الأقل نوع تلك المطالبة وسيقوم بتوجيهها نحو ما هو علمي ومهني وقانوني أيضا.
في حادثة الطفلة رهام كان الانفعال الشعبي طبيعيا جدا، ولا يمكن توجيه اللوم له ولا اتهامه بغياب العلمية والمنطقية، ليس لأن ذلك لم يحدث بل لأن العلمية والمنطقية ليست وظيفته، هذه هي وظيفة الجمعيات الأهلية التي تقدم ما يشبه الإدارة لصوت المجتمع وتقوم بتوجيه انفعاله باتجاه المطالب العلمية والمنطقية والنظامية، وأمام حادثة الطفلة كان يمكن لمثل تلك الجميعة أن تحمل المطالب الفعلية وترصد الخطأ الحقيقي وتوجه النقد الأنسب وتحمل صوت الناس ومطالبهم وتتواصل معهم، إنها ستمثل إدارة مهنية ودعما وتهذيبا لانفعال الشارع واحتجاجه على مثل تلك القصص والأخطاء.
من المهم أن تبدأ مثل تلك الجميعات في الجوانب الخدمية غير الخلافية، أي التي لا مجال فيها لتعدد الآراء أو التي قد يعلن البعض خشيته من توجهاتها أو أفكارها لأنها قد تنحو باتجاه تغليب تيار أو مذهب فكري أو نحو ذلك، الجوانب الخدمية لا تخضع لأي شكل من أشكال صراع التيارات، فالجميع متفقون على أن الخدمات الصحية يجب أن تكون على أعلى مستوى وأن الطرق يجب أن تخلو من الحفر والزحام، وأن الأسعار يجب أن تكون عادلة ولا تخضع لارتفاعات مفاجئة، وأن النظافة يجب ألا تتراجع عن المستوى الأفضل في مدننا وشوارعنا، ويمكن قياس كل الخدمات على ذلك. إنها قضايا لا تخضع لأي اختلاف أو تعدد في وجهات النظر، وبالتالي فالإجماع عليها لا حدود له، مما يعني أن الاشتراك في دعمها وتوجيهها ومحاسبة وقراءة أوجه القصور أمر لا بد أن يتم بمشاركة أهلية ومجتمعية.
هذه الجميعات هي في الواقع داعم حقيقي لما تريده الدولة وما تسعى إليه، لا أحد يشك أن الرغبة والإرادة والتوجيهات القيادية العليا في كل ما يخص الخدمات العامة تطالب دائما بتحقيق الأفضل، تماما كما يطالب المجتمع بذلك، في مثل هذا الواقع لا بد من وجود جهة تقييم ذات بعد مجتمعي، تسهم أولا في حماية مقدرات الدولة من الهدر الذي قد يتسبب فيه سوء الخدمات، وتحمي طموح الشارع وحقه أيضا.
يمكن أن تتشكل جمعية من أفراد من ذوي الاختصاص ممن لا يرتبطون بأي دور رسمي مع الجهة المعنية بتقديم تلك الخدمة، إضافة إلى شخصيات قانونية وشرعية وإعلامية واجتماعية واقتصادية.
إن بقاء الجهة التنفيذية مسؤولة عن تقييم أدائها أمر لن يتمتع بالمصداقية المأمولة، كما أن تصاعد المواقف الاجتماعية ضد أي خطأ دون أن يسفر عن أية نتيجة بسبب انفعال ذلك الاحتجاج وعاطفيته، كل ذلك بحاجة إلى توجيه وإدارة، وهو ما لا يمكن أن يتم إلا من خلال جمعيات أهلية تشترك في كل عمليات التقييم وفي التعامل باسم المجتمع مع كل حدث أو تقصير أو خلل في الجوانب الخدمية.