عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين بيتي ومنبري روضةٌ من رياض الجنّة) وحين تخطر الجنة على بال المرء يتخيل مكاناً فيه من الراحة والدعة والسكون والسلام ما ليس له مثيل في دنيا البشر. وصحيح أننا نتكلم هنا عن موقع دنيوي هو الروضة النبوية الشريفة بمدينة المصطفى، صلى الله عليه وسلم، إلا أن النفس كانت وما زالت تتمنى أن تكون هذه البقعة المباركة صورة مصغرة لتلك الجنان التي ندعو الله متضرعين له أن يرزقنا الخلود فيها. ولا سيما أنه يرقد فيها سيد البشر، وبما أننا مأمورون بألا نرفع أصواتنا عنده حياً أو ميتاً، فإن الرغبة في الإحساس بالسكون والطمأنينة في هذا المكان تتعاظم.
كنت قد زرت المدينة المنورة لأول مرة وأنا طفلة، يومها أتذكر أن النساء لم يكن مفصولات ومحشورات بالطريقة التي أراها اليوم، بعد أن حرمن من "المواجهة" لقبر النبي، وبعد أن تحددت أوقات الزيارة لهن بثلاثة مواعيد فقط، وسط تزايد هائل في أعداد الزائرات. ففي زيارتي الأخيرة فوجئت بتنظيمات غريبة لم أر لها نتائج إيجابية. فابتداء أوقات الزيارة للنساء قليلة قياساً بأعدادهن، ومن ثم يتم تقسيمهن إلى مجموعات للزيارة بحسب الجنسية: الخليج والعراق، بلاد الشام، مصر، تركيا، ماليزيا، وهكذا. ومع أنني أعرف أن الهدف من ذلك تنظيمي بحت، وأنه من أجل سهولة التخاطب مع كل مجموعة بلغتها، إلا أنه في الوقت نفسه شعرت بنوع من الغصة، إذ يحضر في هذا المكان انتماء آخر غير الانتماء لأمة الإسلام. فها نحن ندخل إلى هذا الجزء من الجنة كقبائل وشعوب، ونسلم على رسول الله ونحن نرفع لافتات الأمصار التي رسم خرائط معظمها الاستعمار.
ومع ذلك، فلو أن هذه التنظيمات التي يبدو أنها مقتصرة على الجانب النسائي فقط، نفعت بالفعل في التحكم بحركة الزائرات، ولو أننا دخلنا للروضة بسكينة ووقار، وصلينا ركعتين بخشوع، لما كان عندي اعتراض عليها، فللضرورة أحكام. لكن الذي حصل هو أن معظم الزائرات لم يستطعن أن ينتظرن دور مجموعتهن لثلاث ساعات، فالوقت متأخر بعد صلاة العشاء، والنساء متعبات، ولبعضهن التزامات أسرية أو ضرورات صحية، فما إن فتح الباب حتى اندفعت النساء راكضات باتجاه الروضة الشريفة، ووجدنا أنفسنا في وسط أمواج متلاطمة من البشر تعصرنا عصراً، حتى لكأننا نطوف في الصحن الشريف في مكة المكرمة في ليلة السابع والعشرين من رمضان. وارتفعت أصوات الصياح والخوف من الدهس من قبل كثير من الزائرات، فنحن أتينا نرجو الثواب وليس لنلقي بأيدينا إلى التهلكة! فللحظة نسيت أين أنا، ولا ما كنت أنوي فعله، فقط كنت أبحث عن مخرج سريع دون أن أؤذي نفسي أو غيري، ثم صاحت زائرة بأننا صرنا في الروضة فعلاً، فانتبهت بصعوبة للسجاد الأخضر تحتنا، وأقصى ما تمكنت من فعله لحظتها هو الصلاة على النبي، صلى الله عليه وسلم، والدعاء بسرعة فيما أحاول حماية نفسي من السقوط.
وحين خرجت شعرت بأننا في حاجة إلى تنظيم زيارة مسجد الرسول كما يليق به وبرسالة الإسلام الخالدة التي عنوانها النظام، والتي لم تترك ناحية من نواحي الحياة إلا ونظمتها.
ثمة عوامل عديدة تؤدي إلى الفوضى، فمنها كثرة العدد في الفترة نفسها، ولعلنا هنا نطرح جدوى فتح باب العمرة طوال العام، وإعطاء عدد لا محدود من تأشيرات الزيارة دون حساب للطاقة الاستيعابية للمسجدين الشريفين، سواء في الحج أو العمرة أو الزيارة. فالهدف ليس أداء العبادة فقط حتى لو لم تكن هناك لحظة خشوع واحدة، أو حتى لو ترتب عليه ضرر للإنسان أو من حوله، وإنما الغرض زيارة بسكينة ووقار، تؤدى فيها المناسك كما يجب، ويخشع فيها القلب لخالقه. وقد سبق أن زرت مساجد وكنائس ومعابد بغرض السياحة، وكان القاسم المشترك بين كل دور العبادة هو هذا الهدوء الذي يغمرها، فالأديان جاءت لتعلم الإنسان السلام والتصالح مع نفسه ومن حوله. ومهما أقيم من توسعات في مكة والمدينة فلن تستوعب هذه الأعداد الهائلة من المسلمين، فالحل إذاً قد يكون بضبط الأعداد، ونظام المحاصصة للعمرة كذلك.
وهناك طرق تنظيمية أخرى لزيارة مكان مثل الروضة، فمثلاً يمكن العمل بنظام أساور، الغرض منه تحديد وقت دخول كل زائر، وهو تنظيم معمول به في الكثير من المرافق السياحية التي يزورها السياح دفعة واحدة، إذ تعطى كل مجموعة، ولنقل مائة شخص، وقتاً محدداً مثلاً من الساعة الرابعة حتى الرابعة والربع ثم تخرج، وتدخل مجموعة ثانية وهكذا. ويتم تنسيق ذلك للأفواج القادمة من الخارج عبر حملاتهم، ولحجاج وزوار الداخل عبر مكاتب و"أكشاك" خارج المسجد النبوي. فزيارة واحدة تصلي فيها بأمن وسكينة وخشوع خير من زيارات متعددة لا تعلم فيها ماذا تقول.
ما زلنا في حاجة ماسة إلى تنظيم، وجزء من السبب يرجع لتنظيم المسؤولين عن هذه المرافق، والجزء الآخر لوعي الحجاج والمعتمرين والزوار للأسف، وفي كل الأحوال، فإن الوضع بحاجة للكثير من الجهد والتنظيم.