حين يقترب معرض الكتاب في كل عام تثار قضية السماح ببيع الكتب التي تحوي مخالفات دينية، ونظرا لعدم التوصل لحل بشأن ذلك فقد أصبحت أشبه بالملهاة ككثير من الضجات الموسمية الملهية التي لا نخرج لها بحل، وأساس المعضلة يكمن في عدم نضوج فكرة الاستفادة من الكتاب وكيف تبنى الثقافة والفكر من خلاله، في الوقت الذي نعتقد أن ربط محتواه بالجنة والنار هو الأساس في الكتاب وتقييمه والاستفادة منه، فالحصيلة الفكرية أو المعرفية الكامنة في الكتاب ـ ولا أقول الموجودة لأن الاستفادة منه لا تقف عند حدود الكلمات ـ لا علاقة لها بتحديد المعتقد الموجود في الكتاب هل سيؤدي إلى الجنة أم إلى النار، فالفصل بين الرؤيتين هو ما يتعين البدء به، ثم تطوير نظرتنا للكتاب متجاوزين لفكرة أن طريقة حصول الفائدة من كتب الفكر والفلسفة ـ بحكم أنها المعني الأول بما أقول ـ مشابهة لطريقة حصولها من الكتب الإرشادية للأجهزة (الكاتالوج) أو كتب الطبيخ، اقرأ وطبق في المطبخ أي بطريقة مباشرة، فمن منعها خوفا على إيمان الناس يتصور أن الفائدة تؤخذ من الكتاب بهذه الطريقة لا بطريقة الاستبطان واندماج المعرفة السابقة مع المعرفة الجديدة لتنتج فكرا جديدا، وقد انتشرت هذه الفكرة بسبب طريقة التلقي الكتاتيبي قديما أو شبيهها من المدارس الحديثة، فذهنية القارئ معمل يعمل وينتج أفكارا في لحظة القراءة لا أنه يتلقى مباشرة ويطبق، وبناء عليه فقد ينتهي الكتاب بقارئه إلى عكس ما هو موجود به من علم أو معرفة أو معتقد أو غيره.
إن الباعث على منع تلك الكتب لا يعدو أمرين، فإما أن يكون خوفا على إيمان الناس أو المحافظة على شكلانية الدين أو شكلانية تطبيق الشريعة، وحينما أقول "شكلانية" فإني أقصد التطبيق الظاهري للدين المقابل للداخلي الحقيقي، أما الخوف على الإيمان فالإيمان لا يحمى بهذه الطريقة، بل إن منع الكتب التي تحتوي على مخالفات دينية هو ما يبعث على الردة أو الإلحاد أو الانحراف أكثر من السماح بها، لأنه يحيي فكرة التسلط والوصاية الدينية التي هجرتها المجتمعات الحديثة، وإذا أضفيت على الإسلام فإنها تنفّر منه، ومعلوم أن الملحد لا يلحد إلا بعد فقده الثقة بدينه والحظر والوصاية من مغذيات ذلك، لا لمجرد معلومات جديدة وصلته أو بالتلقي البسيط من كتاب، ولو حدث فيكون بعد فقد الثقة وخلق الأرضية لذلك، وكذلك فإنه لا بد من التفرقة بين كتاب يحتوي على كفر أو إلحاد ولو بنسبة كبيرة وبين كتاب كفر أو إلحاد، فالأول ألف في موضوع ما ولكنه اشتمل على إلحاد، كأغلب كتب الفلسفة الممنوعة ككتب فلسفة التنوير الأوروبي لأننا في أمس الحاجة لها، وكذلك كتب المفكرين العرب الذين تم تكفيرهم، وأحيانا لا يكون الإلحاد فيها ظاهرا وإنما يستشف بعد تأويل وتحوير، والثاني ألف لغرض الإلحاد والحث عليه وليس لصاحبه سوى أن يلحد قارئه، فهذا هو ما يمكن منعه وكذلك بعض الروايات والقصائد. أما الأول فلا يمنع لصعوبة التحرز منه ومراقبته ولأنه يفوت المنفعة التي به فهو مثل دراسة علم دنيوي، كالهندسة مثلا في كلية كنسية، ومثل لو أن هناك كتاب هندسة يحوي صورا مبتذلة فالجميع يوافق على الدراسة في تلك الكلية أو اقتناء الكتاب الهندسي، وأما ادعاء أن كتب الفكر لا تمنع على المتخصصين لأنها موجودة في أماكن وجودهم الجامعية أو الثقافية فلا معنى له، لأنهم الآن بالآلاف ومبثوثون في المجتمع ولا يمكن حصرهم في مكان لنزودهم بتلك الكتب فيه.
إن الإسلام لا يتعامل بالشكليات بل بالمضمون، ولا معنى لما يردده البعض من أننا إذا وجدنا الكتاب في الإنترنت فلا يضر بخلاف إذا بيع على الأرفف بشكل علني، فالأول أخف في زعمهم وهذا إمعان في الظاهرية والسطحية بسبب سيطرة شكلانية الدين علينا، فالإسلام لا يتعامل بهذه الطريقة وإنما بالنتائج النهائية، فإذا كان حجم الانتشار واحدا في المجاهرة والإخفاء فلا فرق بينهما بل المجاهرة أولى لأنها تكشف المعصية، وأولى إن كانت تحد منها، وهذا على افتراض أن بيع تلك الكتب معصية، وحديث أمر النبي لعمر بإلقاء التوراة يراد منه الأخذ الديني لا الاستفادة المعرفية لأنهم كانوا في طور تشكيل العبادات الدينية آنذاك، وعبر التاريخ لم يعتبر المسلمون وجود الكتب الممنوعة من المجاهرة بالمعصية وإلا كيف وصلتنا نحن بعد مئات الأعوام رغم مرورها على عدة حكومات ودول ولم يتلفها أي منها، فما قيل في التماثيل التي يراد هدمها وكيف تركتها حكومات إسلامية سابقة يقال في الكتب الممنوعة، بل إن بعض المذاهب نفسها قد زالت وكتبها باقية إلى اليوم.