في مستشفى جازان العام، تم نقل دم ملوث بمرض الإيدز للفتاة رهام الحكمي (15 عاماً)، ويتم الحديث في وسائل الإعلام عن هذه القضية بأنها "خطأ" فادح.. وخطأ كبير.. وخطأ جسيم.. لا أكثر!

لكن الواقع فيما حصل لرهام ليس خطأً بل هو جريمة تتعلق بحياة إنسان، تشبه القتل البطيء لطفولة فتاة ربما لم تحلم بأكثر من رعاية طبية تؤمنها وزارة الصحة لمساعدتها على مقاومة الأنيميا المنجلية!

ما زلت أكرر وأقول إن ما يقال عنه خطأ في الطب ليس خطأ عادياً لأن تبعاته الموت أو الإعاقة أو الإصابة بمرض خطير كما حصل مع رهام! وباختصار مهنة الطب لا تحتمل الخطأ، وبناء على ذلك مهما كان العقاب قاسياً لن يعيد مياه النهر إلى قمة الجبل، فالنهر سينحدر إلى السفح بطبيعة الحال، حيث لن يقبل أحد من المسؤولين بشكل مباشر أو غير مباشر عما حدث في مستشفى جازان أن تتبرع لهم رهام بدمها الذي لوّث وانتهى أمره، سواء نتيجة الإهمال، أو نقص الأجهزة، أو أياً كان، فالمسؤولية في وصول الدم الملوث بالمرض الخطير وحقن جسد رهام به هي مسؤولية مشتركة.

ولذلك نرى في الدول المتقدمة أن إعلان الاستقالة من أطراف مسؤولة ليس لها علاقة مباشرة بالحدث لكنها تتم بقصد الإقرار بالمسؤولية الأخلاقية والإدارية لا هروباً منها ومن تحمّل تبعاتها، ومع الأسف فإن قضية رهام محسومة من الآن بشكل كئيب ولن يجدي الاعتذار الشفوي فقط دون وجود عمل فعلي وسريع بصرف النظر عن انتظار تقارير اللجان المنبثقة عن لجان.. ولنتذكر قول الدكتور غازي القصيبي: "إذا أردت لموضوع أن يموت فشكّل له لجنة"!

ولا أعتقد أن أحداً من مسؤولي وزارة الصحة يريد لهذه القضية أن تموت، ولا أقول إن قضية رهام ليست بحاجة للجنة أو مجموعة من اللجان الآن، لكنها بحاجة إلى نقلها بوجه السرعة على نفقة الوزارة إلى أرقى مستشفيات العالم؛ لأن الطب في الغرب يتقدم بسرعة، وربما يشفع لرهام عمرها الصغير ببارقة أمل باكتشاف علاج جذري لهذا المرض خلال السنوات القادمة.

يحظى وزير الصحة الدكتور عبدالله الربيعة بثقة عالمية كطبيب له خبرة رائدة في مجال عمليات فصل التوائم السيامية، ما قد يجعل المواطن يأمل فيه أن يستخدم الأسلوب نفسه للفصل بين "الصحة" ومكامن الخلل فيها، على الرغم من صعوبة هذه النظرة وحاجتها إلى تأسيس استراتيجيات وعمل جماعي يقود إلى النجاح.

لقد قلت سابقاً، وأكرر الآن: إن وزارة الصحة تحتاج إلى "بريسترويكا" وطنية، تهدم فيها مكامن الخلل وتبني على أنقاضها "صحة" حقيقية متساوية لجميع المواطنين في جميع المناطق، بعيداً عن قساوة نظرية المركز والأطراف، ولا سيما أن الميزانيات الضخمة والطاقات التي توفرها الدولة كفيلة بأن تحقق خدمات صحية ممتازة، ولا يلام المواطن إذا رأى ما يهدد حياته وحياة الآخرين فشعر بالأسى في ظل اتجاه المجتمعات والدول الأخرى إلى الصحة المستدامة.

وربما أن أولى الخطى هي بناء جسور ثقة بين المواطنين ومؤسسات وزارة الصحة، بالإفادة من وجود مستشفيات ذات خدمات متميزة هي مضرب المثل اليوم، لكن هذا لا يكفي لإغماض العين عن الخدمات المتردية في المناطق الأخرى، سواء من ناحية البنية التحتية للمباني أو الأجهزة والمختبرات أو الطواقم الطبية ومنهم الأطباء في تخصصات ضرورية على رغم ندرتها.

كما يبدو أن معالجة وزارة الصحة للقضايا الإنسانية-التي تتحول من خلال وسائل الإعلام إلى قضايا رأي عام- تحتاج إلى وقفة وطنية هي الأخرى، إذ إن السكوت عن قضية ما بلا حل ناجع لا يعني انتهاءها، لأن عدم حلها يعيدها إلى الظهور إلى السطح مجدداً، مثل قضية الطفلين السعودي والتركي التي باتت من أشهر القضايا، لكن على ألمها تبقى قضية الفتاة رهام أشد إيلاماًَ منها، ولا نريد لها أن تتكرر مهما يكون الثمن.