نحن نعيش الآن في عالم متغير، في عالم تجتاحه موجات عاتية أشد عتوا من موجات "تسونامي" إن جاز التعبير. وقد يقول قائل إنها لمبالغة شديدة. ألم يقل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "لهدم الكعبة حجرا حجرا أهون من قتل المسلم". فهو سلب لروح أودعها الله سبحانه وتعالى أمانة في جسد عبده، وللأمانة شأن عظيم، فقد قال تعالى: "إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) سورة الأحزاب.

وأطفالنا أيضا أمانة، فكل راع مسؤول عن رعيته، فما أبشع التفريط في الأمانة، وما أصعب علينا من وصف الإنسان بأنه ظلوم جهول، إذا ما فرط في الأمانة. وهل الدماء العربية التي تراق هنا وهناك رخيصة إلى هذا الحد، إذا ما انتقلنا للمنطق الدنيوي والحديث عن القيمة؟!.

لم يعد الأمر بالشيء اليسير أو الهيِّن؛ لأننا سنواجه جيلا شاهد وسمع وتمعَن واستقى عبر مؤثرات التلقي بكل مستوياتها مناظر هذه الدماء من رؤية القتل، ومن رؤية أدواته حتى يصل الأمر إلى استمرائها، فيصبح هذا الأمر شيئا عاديا وسهلا.

كنا ندرس في الأكاديميات علوم النفس التي ترتبط بالدارما ـ وما تحدثه عبر كل عناصرها في نفسية المتلقي في فنون التلقي والكتابة، إذا ما تناولنا صناعة صورة للطفل بأي شكل من الأشكال ـ إننا نرفض تسييس الطفل، وعدم محاولة الكتابة للأطفال بشيء من محاولة تسييسه؛ لأن ذلك يضر بتكوين المنظومة الفكرية المستقبلية للطفل في المستقبل، وعدم اتزانه، والمصادرة على استيعابه وتحصيله العلمي والمعرفي عبر مراحل طفولية مبكرة، فلا نترك أي وعاء معرفي استيعابي للطفل، إذا ما حاولنا تسييسه، إذ إن ما يسمى بـ"الإطار المرجعي" وهو مخزن الإبداع والمعرفة يكون مصادَرا عليه إذا ما تسيَّس. هذا على مستوى التلقي والتكوين المعرفي في مراحله الأولى، فما هو حال أطفالنا في الوطن العربي، لجيل كامل قادم وهو يتلقى شحنا طيلة الوقت على جميع القنوات، وفي وسائل الإعلام، و في الواقع أيضا مرئي للعين مرأى اليقين؟!.

ونظرية الطفل العدائي تؤكدها دراسة نشرتها جامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأميركية، شملت مئة طفل في عمر ما قبل المدرسة، ممن أخضعوا للمراقبة قبل مشاهدة التلفزيون وبعدها. أكدت على نتائج منها:

- "مشاهد العنف المتكررة تخلق أطفالا "متحجري القلوب" أقل تعاطفا مع أوجاع

الآخرين ومعاناتهم.

- العنف يولّد لدى الطفل خوفا وهلعا من العالم المحيط به.

- مشاهد العنف تولّد أطفالا عدائيين "بامتياز".

هذه هي نتائج الدراسة التي أجرتها الجامعة سالفة الذكر على أثر مشاهدة العنف في التلفزيون على الأطفال في المراحل المبكرة!.

فماذا عن أثر مشاهدة الدماء والأشلاء هنا وهناك على الطفل في وطنه العربي؟!

إضافة إلى ما يشاهده من عنف صوَري تصدِّره لنا تلك الصور المتحركة والمسيِّسة للطفل عبر شاشة التلفاز، وفي هذا يقول صلاح الدين بن فضل المختص في علم نفس الطفل: "هناك نوع من التلاعب السياسي، ولا أعتقد أنّ اختيار الصور المتحرّكة يتمّ بصفة اعتباطية، فحتى منتجو هذه الصور واعون بالرسالة التي يريدون تكريسها في ذهن الطفل، وهذا هو التلاعب الأيديولوجي والسياسي بعينه".

كما أنه أكد على ذلك حين قال: "هذا هو الاستعمال السياسي للصورة، لقد أصبحنا اليوم نتبّع التوجه السياسي على حساب نموّ الطفل". كما أن "جامعة ميشيجين الأميركية قامت بدورها بدراسة حول نتائج العنف التلفزيوني، أجرتها على 800 طفل من سن الثامنة وحتى الثلاثين من العمر.

بدأت الدراسة في الستينات، وتبيّن خلالها أن الأطفال الذين شاهدوا العنف التلفزيوني لساعات طوال، كانوا أكثر عدائية في قاعة الصف وفي ساحة اللعب أيضا. بعد مضي 11 عاما ومن ثم 22 عاما، تبيّن أن هؤلاء الأطفال العدائيين الذين تحوّلوا إلى بالغين في سن التاسعة عشرة ومن ثم في الثلاثين، قد ارتفع لديهم مستوى العدائية التي شملت العنف المنزلي ومخالفات السير وردّات الفعل العنيفة تجاه الآخرين بشكل عام"، كما أوردتها إحدى الدراسات المنشورة.

إن ما أدهشي ذلك اللقاء التلفزيوني على إحدى القنوات العربية مع عدد من الأطفال لم يتجاوز بعضهم الصف السادس الابتدائي، وهم يناقشون قضايا سياسية وآليات الحكم، وآراء ثورية وأخرى سياسية!! قد نفرح جميعا للفطنة والفصاحة والوعي الذي كان عليه هؤلاء الأطفال، وهو شيء مفرح بالطبع. هذا على المستوى الأول. أما على المستوى الثاني فهو أمر لا تقره الأكاديميات التربوية والفنية والنفسية في مدى أخطار تسييس الطفل، وتلقينه السياسة وتعرضه لمشاهد العنف سواء كانت أحداثا جارية على الساحة أم كانت معدة خصيصا للطفل، ولعل الأحداث الجارية على الساحة العربية أشد خطورة وأقوى فتكا بتكوين جيل جديد.

أما على المستوى الثالث، فهو كيف ينجو جيل بكامله من براثن آثار مناظر الدم والقتل والنار والعنف على قنواتنا وفي ساحاتنا العربية؟! كيف سيتكون وجدان جيل مقبل زحف إلى عقله ودون استئذان مشهد الساحات الملتهبة المليئة بالقتلى وبالجثث وبالسحل والضرب والركل وكل أنواع العنف، في سورية، وليبيا، وتونس، والعراق، وفلسطين، واليمن، ولبنان، والسودان، ومصر، والجزائر! فماذا تبقى إذاً؟، وإذا ما تبقى بلد فأطفالنا يعيشونها على الفضاء الإعلامي، ودون وعي منا نترك أبناءنا يتشبعون بهذا المشهد ونحن لا ندرك عواقبه!.

أتذكر مشهدا في فيلم وثائقي إبان قيام الحرب العالمية، لا أتذكر إن كانت الأولى أم الثانية، إنما المشهد كان لقطارات تُجمِّع الأطفال من كل النواحي، وتحملهم بعيدا حتى عن ذويهم؛ كي تبعدهم عن رؤية النار والقتل والموت، وكي ينجوا بصحة نفسية صحية تماما من آثار العنف والحرب، ومن آثار الدماء والجثث الملقاة على قارعة الطريق، ولهذا خرج منهم جيل جديد مبدع، ومُلهَم، ومُحِب، واجتماعي، دونما ظهور أية آثار لتلك الحروب عليهم.

ولذلك وجب علينا مراقبة ما يشاهده وما يسمعه أطفالنا، فهم في نهاية الأمر أمانة في أعناقنا، وما أثقلها من أمانة.