قرار خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز بتمديد فترة الابتعاث خمس سنوات أخرى، استقبل بمشاعر ورؤى مختلفة.. هي الرؤى المعروفة سابقا عن الابتعاث من فئات المجتمع؛ فمن الناس من رآها فرصة لا تعوض ولهج بالشكر والدعاء، ومنهم من طالب بتوظيف من تخرج من البرنامج ولا يزال يبحث عن فرصة عمل، ومنهم من شكك بثمار برنامج الابتعاث ونتائجه، ومنهم من تجاوز كل ذلك حتى وصل للطعن في أخلاق وسلوكيات المبتعثين، متجاهلا كل إيجابيات الابتعاث.

ما أريد أن أتحدث عنه اليوم لم يتطرق إليه أحد من قبل، وهو غربة المبتعث.. أريد أن أتحدث عن حالة نفسية، سيكلوجية، فلسفية واجتماعية على حد سواء تسمى ظاهرة الاغتراب. وهنا لا أقصد الاغتراب عن الوطن والأهل للتأهيل العلمي، فهذا النوع من الاغتراب "يخارج" الروح ويجليها على الإبداع، وهذا هو الاغتراب الإيجابي الذي أشار إليه هيجل، أما الاغتراب السلبي فهو ما يحدث للمبتعث بعد رجوعه لأرض الوطن، كما يمثله هيجل في عدم قدرة الذات على التعرف على ذاتها من الأشياء والموضوعات.

وللشرح والتسهيل، فإنني أخاف على المبتعث مما بعد الابتعاث أكثر من الابتعاث نفسه.. أخاف أن تنطبق عليه نظرية دوركهايم حول الاغتراب، التي يصفها بفقدان القيم والمعايير، فيحدث ما يسمى بالفوضى، لأن القيم التي اكتسـبها في فـترة ابتعاثه ستعـطل بسبب اصطدامها بالقيم التقليدية الثابتة غير المتغيرة، مما يـنتج عنه نوع من الفراغ وعدم التفاهم، أو قيم جديدة لضبط سلوكه اليومي، فعدم إحلال قيم جديدة تضبط العلاقة بين أفراد ومؤسسات المجتمع سيبقي المبتعث مغترباً لا يشعر بانتماء، ويبقى عاجـزا في علاقة من طرف واحد.

فمصـادر مشاعـر الاغتـراب متـنوعة، لكـن أهـم اثـنين في عصرنا هذا هما: العلاقات السلطوية، في المؤسسـات المجتمعيـة، وهـذه متـوافرة جداً في المجتمع العربي، فيشعر المبتعث بأنه لا حول له ولا قوة، فلا يستطيع التأثير فيها أويغير من توجهها أما المصـدر الثانـي، فـهو معاكس للأول تمـاماً، مع أن الانسـان يظن أن عدم وجود سـلطوية في المجـتمع يمكنه من فـعل كل ما يريد، لكن للأسف، ففي حالة الفوضى لا يتمكن المرء من ضبط القيـم في العـلاقة مع المجـتمع أو المؤسسات، بسبب عدم وجود معايير ضبط للعلاقة في هذه الحالة، فيجد المبتعث نفسه إنساناً عاجزاً أيضاً، ولكيلا يصبح المبتعث مغترباً يجب أن يكون لديه وعي، فغياب الوعي بدوره وأهميتـه في المجتمـع يصنع منه ذاك الكـائن المغترب العاجز الذي لا يستطيع أن يسهم في الحاضـر ويبني المستقبل. وهنا يـأتي دور المؤسسـات في الوطـن الأم، إذ يجب ألا يـترك المبتعث هائماً في بلاد الابـتعاث، فالمبتعث هو ساعـد المجـتمع، وفـترة الابتعاث كالجبـيرة، فلا يمــكن أن يعـود الساعـد لحركـته الطبيـعية بـعد فـك الجبـيرة مباشرةً، بل يحتـاج لفترة عـلاج طبيـعي لتسـاعده للعـودة إلى الحركة الطبيعـية، فهـذا ما يريـده المبتعث.. فـترة عـلاج طبيعي، وأقصـد بها هـنا برامـج تكــون في فـترة الصيف أو الإجـازات تقوم بها وزارة التـعليم العـالي، بالتعـاون مع المؤسسات الوطنـية، لكيلا يشعر المبتعـث أنه طـول فـترة ابتعـاثه كـان غائـباً عـن وطـنه، بـل ليصـبح قـادراً على أن يقيـم علاقـات صحـية مع المجـتمع بعد عودته، فالوطن بحاجة ماسة

للـ 300 ألف مواطن ولن يفرط فيهم.