قبل حوالي أسبوعين من هذا التاريخ، قدر لي أن أسجل زيارتي الثالثة لليمن السعيد، بمعية مجموعة من المثقفين والمفكرين العرب. وكانت فرصة لتحقيق بعض اللقاء مع عدد من المسؤولين اليمنيين، والقيادات الحزبية. وكان الأبرز بين تلك اللقاءات، الاجتماع برئيس الجمهورية عبدربه منصور هادي، ورئيس الحكومة محمد سالم باسندوه، وأمين عام اللجنة التحضيرية للحوار الوطني الشيخ حميد الأحمر.
ولا شك أن تزامن هذه اللقاءات مع وصول الوفد الأممي برئاسة الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، بهدف الاطمئنان على عملية الانتقال السياسي في اليمن، قد وجه الحديث في لقاءاتنا مع القيادات السياسية نحو هذا الموضوع. وخلال هذه اللقاءات، سادت نبرة التفاؤل والتطلع إلى المستقبل، والثقة، بعبور المرحلة الانتقالية بسلام. لكن ذلك لم يمنع من الإشارة إلى وجود مثلث الأزمة المتمثل في الحراك الجنوبي، المطالب بالانفصال، ووجود القاعدة في محافظة أبين، وأيضا تمرد الحوثيين في صعدة، شمال البلاد. ومؤخرا، برز الحديث عن مطالب بعض القادة التقليديين في حضرموت بتحقيق استقلال بلادهم عن اليمن، شماله وجنوبه، إعمالا بحق تقرير المصير.
في سياق عملية الانتقال السياسي، يجادل قادة الأحزاب المعارضة، أن من أسباب نجاح الحركة الاحتجاجية، هو اندلاعها في مختلف المدن الرئيسة، واحتفاظها بالطابع السلمي، رغم أن شعب اليمن، هو من أكثر المجتمعات العربية، اقتناء للسلاح. لقد حافظ المحتجون على سلمية انتفاضتهم، منذ بدايتها حتى التوقيع على الاتفاق بالرياض، الذي يمهد للمرحلة الانتقالية السياسية المدنية.
لقد حمى التوجه السلمي للحراك السياسي، البلاد من الانهيار حتى النهاية. وقد مكنها ذلك من تحقيق أهدافها. كما أن مشاركة مختلف القوى السياسية في هذا الحراك، واتفاقها على برنامج سياسي واضح ومتكامل، حال دون بروز سياسات التهميش والإقصاء، وقد وضع ذلك سدودا قوية تمنع عملية اختطاف الحركة الاحتجاجية من أي من القوى السياسية الفاعلة، كما حدث في البلدان التي تمكن فيها الإخوان المسلمون من القفز إلى السلطة.
لقد تمت حماية ممتلكات الدولة من التخريب والتدمير، وتجنب المعارضون العنف والتصادم مع أجهزة الأمن. ولم يحدث في اليمن ما حدث في مصر وليبيا، وبقية البلدان التي شهدت موسم ما جرى التعارف عليه بالربيع العربي. ولم يكن الاتجاه السلمي عفويا، بل جاء نتيجة خطة محكمة، اعتمدت الاعتصام بالميادين بدلا من المسيرات في الشوارع. لقد كان اليمنيون في غاية الرقي والسلمية، فكان الابتعاد عن الحرق والتخريب والاعتداء على الممتلكات العامة.
ولا شك أن الدور الذي لعبته دول مجلس التعاون الخليجي، في استقرار اليمن، وتوصل مختلف الفرقاء السياسيين، إلى اتفاقية، تضمن مشاركة الجميع، وعدم تهميش أي طرف من مكونات النسيج السياسي اليمني قد أسهمت بشكل مباشر، في حالة الاستقرار التي تسود اليمن الآن.
في هذا الاتجاه، يسود شعور عام لدى اليمنيين، أن نجاح العملية السياسية، التي تمخضت عن المبادرة الخليجية، التي وقعت في الرياض، برعاية سعودية، من شأنه أن ينقل اليمن إلى الدولة المدنية، ويسهم في تحقيق نظام ديمقراطي، يعتمد الفصل بين السلطات بين المؤسسات التنفيذية والتشريعية ويؤمن استقلال القضاء، ويستند على تداول السلطة. إن هذا الانتقال هو وحده الذي، سيمكن الدولة اليمنية من تجاوز أزماتها، ويجعلها قادرة أن تتعامل بفعالية مع ما أطلقتنا عليه مجازا بمثلث الأزمة.
فالأزمة كما جرى تشخيصها، هي نتاج، لتراكم أخطاء امتدت عقودا طويلة، وهي أيضا أزمة نهج، غيبت فيه الشفافية، وتغولت فيه السلطة، ومارست الاستبداد، وهدرت مصالح الناس، وجرى السطو على الممتلكات، واتسعت فيه الفجوة بين المركز والأطراف، وأصبح عجز الدولة جليا عن مقابلة الحاجات الأساسية للمواطنين. استبدلت في وظائف الدولة، الكفاءات بالمحسوبيات، والقدرة على الإدارة بالوجاهة. فكان من الطبيعي، أن تعم حالة الاحتقان، لدى غالبية ضحايا هذه الممارسات، وبشكل خاص في المناطق التي حرمت من التنمية، ومن نيل الحقوق الأساسية. فكان ذلك المعبر الذي نشطت من خلاله قوى التطرف في أبين وصعدة. وهو ذاته، الذي خلق مناخات ملائمة للقوى الانفصالية التي تعمل تحت مسمى الحراك الجنوبي، لفصله عن الشمال. ولو تحققت مشاريع التفتيت في صعدة وأبين والجنوب، لأصبح القطر اليمني في ذمة التاريخ.
ولا جدال في أن الانتقال للدولة المدنية، يعني تراجع كل الأمراض التي عصفت بالمجتمع اليمني خلال العقود الأخيرة. ويعني أيضا قيام دولة تعتمد المساواة والندية والتكافؤ، وتضيق الفجوة بين المركز والأطراف وبين الغنى والفقر، وتفجر طاقات الشعب اليمني، نحو التنمية والخلق والإبداع. وذلك ما ينقل اليمن إلى مرحلة أخرى، تتماهى مع عصر كوني جديد، خلاصته حق الشعوب في تقرير مصائرها وأقدارها، ونيل حقوقها التي أقرتها مبادئ السماء، وشرعة الأمم وإعلانات حقوق الإنسان.
إن تعميم مفهوم المواطنة، هو الذي ينقل معالجات الأزمة، من اختزالها على الجانب الأمني والعسكري، إلى معالجة أخرى، تعتمد الحوار والتفاعل بين مختلف مكونات النسيج الاجتماعي اليمني، وذلك ما يضع اللبنات الأساسية المتينة على طريق تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة. ويعيد لليمن الشقيق البهجة والتنمية والرخاء.