فلسفة ما بعد الحداثة هي إحدى أهم الفلسفات في العصر الحديث خصوصا في الفترة من النصف الثاني للقرن العشرين وصولا إلى أيامنا هذه. بشكل عام فلسفة ما بعد الحداثة فلسفة نقدية توجهت بشكل جوهري لكل الحكايات الكبرى التي سيطرت على فضاء الفكر والسياسة لعصور حديثة. الحداثة التي يتم تحقيب ما بعد الحداثة من خلالها هي الحداثة الأوروبية التي سيطرت مقولات العقل والعلم عليها. ما بعد الحداثة كانت وما زالت نقدا جوهريا لما قدمت الحداثة الأوروبية من إجابات عريضة وواسعة في الفكر والاجتماع والاقتصاد والأخلاق. أحد أهم اشتغالات هذه الفلسفة تحقق في فلسفة التربية حيث تمت إعادة التفكير في المدرسة والتعليم والعلاقات داخل هذه العملية من جديد. فوكو مثال مهم ولكنني سأتحدث عنه لاحقا. اليوم سأتحدث عن إشكالية مفهوم العدالة في هذه الفلسفة وسيكون الفيلسوف الأميركي ريتشارد رورتي أنموذجا لهذه الإشكالية.

ما بعد الحداثة هي فلسفة تفكيك بامتياز وإشكاليتها مع نظرية العدالة أن العدالة هي عملية تركيب بامتياز. العدالة وميدانها الواقع والحياة اليومية للناس قائمة على اتخاذ موقف إيجابي باستمرار. لا يكفي في العدالة أن تقول ما هو الظلم بل أن تقول أيضا ما هو العدل. الإشكال الذي يجده الكثير من الناس مع فلسفة ما بعد الحداثة أنها لا تساعدهم على أن يقوموا بالبناء بعد الهدم. لنلاحظ هنا أن المطالبة ليست أن يتولى فلاسفة ما بعد الحداثة الهدم والبناء في موقف سلبي من القارئ ولكن النقد أن هذه الفلسفة في عمقها غير قادرة على القيام بعملية البناء باعتبار أنها في عمقها فلسفة ارتياب عميق من أعمال البناء. في المقابل الناس مضطرون للبناء. في كل يوم لا يملك الإنسان إلا أن يتخذ قرارات لها علاقة بالعدالة والأخلاق والاجتماع لا يستطيع فيها أن يكتفي بدور المتشكك والناقد بل يحتاج للقيام بدور الفاعل ومتخذ القرار. العدالة هي في الأخير قول لما هو حق وما هو باطل. رسم الخط بين ما هو عدل وما هو ظلم هو عمل تجنبه الكثير من فلاسفة ما بعد الحداثة مما جعل موقفهم من العدالة مشكلا.

رورتي (1931- 2007) كان محاطا بالثقافة الأميركية العملية وبالتالي لم يكن من السهل عليه تجنب هذا السؤال. رورتي يصنف نفسه على أنه براجماتي ينتمي لتراث جون ديوي. في المقابل هو أحد أهم فلاسفة ما بعد الحداثة الذين اقتربوا بالفلسفة للأدب والفن لدرجة صعوبة التمييز بين المجالين. لكن أظنه يمكن القول أن رورتي هو نقطة التقاء البراجماتية وما بعد الحداثة. البراجماتية كانت أيضا نقدا عميقا للحداثة الأوروبية وأحد أهم خصوم الحكايات الكبرى والدعاوى الميتافيزيقية المتعالية للعقل والعلم. لكن البراجماتية فلسفة فعل بامتياز فهي تنطلق من الخبرة الإنسانية كمصدر ومختبر للمعرفة. سنرى هنا محاولة رورتي للبقاء ما بعد حداثيا وبراجماتيا في ذات الوقت.

الفيلسوف عند رورتي هو "آيروني" Ironist أو ساخر. بمعنى أنه الإنسان الذي يكشف نقص وخلل ومشاكل الحكايات الكبرى من حوله أو بعبارة أخرى يسخر كما كان يفعل سقراط من مدعي الحقائق النهائية. يضع رورتي ثلاثة شروط للآيروني أو الساخر. يقول، أولا الساخرة تمتلك شكا جذريا بالمقولات الكبرى التي تستخدمها فهي تجد في داخلها إعجابا بمقولات أخرى مختلفة. ثانيا، هي تعلم أن مقولاتها الخاصة غير قادرة على القضاء على هذه الشكوك فشكوكها عميقة في كل العبارات النهائية. ثالثا، الساخرة تعلم أن أفكارها ومقولاتها ليس لها سند خارج شخصها أكبر من أي حكاية أخرى. الساخرة تعلم أن كل الأفكار بشرية. السؤال المباشر المرتبط بجدالنا هنا هو عن علاقة هذه الساخرة بالمجال العام والقرارات التي يجب أن يتخذها الناس على الأقل في المجتمعات الديموقراطية.

هنا يقدم رورتي تصوره لحل هذه المشكلة. يفرق رورتي بين الساخر في المجال الخاص وبينه في المجال العام. لا يقصد رورتي بالمجال الخاص بيت الفرد الخاص أو حياته الخاصة بل يقصد به كل نشاط يقوم به الفرد لا يترتب عليه إلزام لشخص آخر. لذا الساخرة في كتابتها وتفكيرها وإبداعها الفكري وحواراتها مع الآخرين هي ساخرة بامتياز. في المجال العام يرى رورتي أن الساخرة تكون ليبرالية. لا يعني رورتي هنا بالتأكيد الليبرالية كحزب سياسي معين بل يعطيها معنى أوسع يعبر عنه كالتالي: الليبرالي هو من يعتقد أن العنف والقسوة أسوأ شيء في الحياة.

الليبرالي يسعى لضمان وجود الساخر. الليبرالي يعلم أن كل البشر يشتركون بالإحساس بالألم والإهانة ولذا يسعى في المجال العام لضمان تجنيب الناس أذى هذه الأشياء. في هذه الصورة الساخر قادر على اتخاذ قرارات ومواقف إيجابية يمكن أن تجعل من عملية البناء ممكنة بعد أن يقوم الساخر بالنقد والتفكيك.

خلف تصور رورتي هذا معنى كامن للحقيقة. عند الساخرة الحقيقة موجودة لكنها فقط مشروطة ونسبية وإنسانية. لدينا ما يمكن أن نبني عليه ونثق به وثوقا مشروطا وموقتا. الساخرة تتخلص من ورطة الحقيقة بمعناها المطلق سواء ممن يثبتونها أو من ينفونها. هناك من يدعي وجود حقيقة مطلقة متعالية على كل إنساني مما يجعلها عائقا في وجه حرية الإنسان وهناك من ينفي وجود أي حقيقة لأنه يعتقد أن الحقيقة بالضرورة متعالية ومطلقة. الساخرة خارج هذه المعادلة فهي متمثلة لروح الشك والنقد. الساخرة بذلك ديموقراطية وقادرة على تفهم إمكانية اجتماع الناس على اختلافهم في مكان واحد بدون أن يفرض أحدهم حكايته الكبرى على الآخرين. لنتذكر أن هذا هو سؤال الديموقراطية الحديثة وروح أزمتها الحالية. كيف تتحقق العدالة بدون أن تقضي على الاختلاف والتنوع الذي هو شرط الوجود البشري.