تستوقفني مقولة الأديب والفيلسوف غوتة: "يمكنك أن تصنع الجمال حتى من الحجارة التي تُوضع لك عثرة في الطريق ".. بسيطة وعميقة، فكلٌ منّا يعيش تجربته الجمالية وفق ما يمتلكه من إحساس وتراكمات معرفية إنسانية واجتماعية. والأشياء الجميلة عند معظم الفلاسفة محسوسة تصل إلينا عن طريق الحواس. والفنون الجميلة بأنواعها نحو الموسيقى واللوحة والتمثال وأعمال المعمار وغيرها أشياء خارجية ندركها بحواسنا، حتى الشعر والأدب فنون يستعمل الخيال فيها ويربطنا بالجمال خلال صورة مُتخيلة.
ولعلي أذكر قولا منقولا عن الفيلسوف كانط: "إن الفن ليس تمثيلا لشيء جميل، بقدر ما هو تمثيل جميل لشيء ما"، وبالرغم من أن الفن إدراك داخلي إلا أن بعضهم يصرّ على تأكيد الناحية الحسيّة في الجمال، كون الصورة المتخيلة في الحقيقة صورة لشيء ما في الخارج، إلا أن ذهاب بعضهم إلى كون كافة أنواع الجمال لا تُدرك إلا من خلال مدركات حسية مادية أمر قد لا أتفق معه كثيرا، خاصة فيما يتعلق بالجمال المرتبط بالآداب، لأنها لا تُدرك إلا داخليا في بداية أمرها عبر استعمال الخيال كي يتم الشعور بالتجربة الجمالية، وهي مثلها مثل بعض المعاني الإنسانية نحو الأخلاق والقيم النبيلة، بل حتى الظواهر الجمالية لا تُدرك أول مرة إلا داخليا حين نتلقاها. عموما فإن إدراك الجمال متصل بمستوى المعرفة والتطور الإنساني، وليس عاطفة مجردة أو عملا إراديا. والعاطفة التي يثيرها الجمال في نفوسنا هي جزء مهم من ردة فعل روحية تجاه الأشياء الجميلة.
ولكن ليس الشيء جميلا لأنه أثر في عاطفتنا، وإنما عواطفنا تتأثر بالشيء الجميل. والتجربة الجمالية كثيرا ما تُوصف بأنها شعور، والشعور يختلف عن العاطفة، لأنه عمل من أعمال الإدراك والوعي، نحو شعورنا تجاه شخص ما بأنه صادق أم لا.. هذا نوع من المعرفة وفق تجربة مررنا بها مع هذا الشخص، عكس العاطفة، كعاطفة الأم تجاه ابنها، وعاطفة الحب تجاه شخص ما.. هذه العاطفة تتخلى أحيانا عن الوعي وتتعامى عن العيوب لما يمتلك عواطفنا بشكل نحتار: لماذا أحببناه!؟
وأعود للشعور كونه لونا من ألوان الوعي المعرفي. والشعور بالجمال من هذا النوع بحسب ـ وجهة نظري ـ كما أن إدراك الجمال ليس إدراكا حسيا فقط، لأنه لو كان كذلك لكان إدراك الجمال متوقفا على الحواس وصحتها، ولو كان كذلك لاتفق الناس جميعهم على الشيء الجميل ولم يختلفوا فيه، وما يحصل هو الاختلاف في إنكار هذه الصفة على الشيء، وتفاوت نسبة جماله بين شخص وآخر، مما يؤكد أن مسألة الجمال لا تتوقف عند حدود تلقي الحواس، بل هي مزيج عضوي من الإدراك المعرفي والإدراك الحسي معا.
وأذكر هنا قول إيليا أبو ماضي:
والذي نفسهُ بغير جمال... لا يرى في الوجود شيئا جميلا
وسنكمل في "كلاكيتيات" الاثنين القادم إن شاء الله.