أُريدكم أن تفكروا معي في منظومة الوسائل والتجهيزات والأجهزة التي يستخدمها كل واحد منا.. ثم أريدكم أن تعطوني نسبة مساهمة عالمنا العربي في صناعة كل ما نستخدمه بشكل دوري أو بشكل يومي أو حتى لعدة مرات في اليوم. نحن نستخدم السيارة في التنقل اليومي وفي السفر، ونستخدم الطائرة في أسفارنا القريبة والبعيدة، ونستخدم التكييف والثلاجة والجوال وتقنيات المكتب وتقنيات الطب والاقتصاد ونستخدم تقنيات مختلف مجالات الحياة. ليست هناك مشكلة أن نستخدم صناعات الغير بشرط أن تكون لنا منتجات يستخدمونها بالمثل، لكن المشكلة ألا تكون لنا صناعات ولا منتجات وأن نكون عالة على الغير. ليست المشكلة تبادل المنتجات، فنحن نعيش في القرية الكونية، إلا أن معظم المنتجات التي نستخدمها ـ كالسيارات مثلا ـ تصل نسبة مكوناتها المستوردة إلى أكثر من 70%.. بمعنى أن الدول التي تستورد السيارات تستورد معظم مكوناتها أيضا، لكن تلك الدول التي تصنع السيارات تصدر للدول التي تستورد منها منتجات أخرى.. فالعالم الآن لا يمكن أن يستغني بعضه عن بعض، لكن المشكلة في من يعيش على هامش الحياة ويعطى كل شيء وهو لا يعطي شيئا. ونسأل: لماذا نحن فقط للاستهلاك دون أن يكون لنا دور في الابتكارات والإنتاج؟ وإلى متى يستمر ذلك؟ وكيف استطاعت دول تقل إمكاناتها عن إمكاناتنا أن تقفز على حاجز التنمية وعصر المعلومات بنجاح وتحقق نجاحات ومكاسب هي قريبة من دول سبقتها إلى التقدم بأجيال عديدة؟ وهل نفكر تفكيراً جدياً في هذه القضية؟ وهل لدينا خطط للقفز على حاجز التنمية وعصر المعلومات الذي يأخذ في الارتفاع كل ما تقدم بنا الزمن؟ وهل أخذنا قضية تباعد المسافة وارتفاع هذا الحاجز وإمكانية عجزنا عن القفز عليه إذا تأخرنا؟ وهل تأخذ خططنا اكتشاف موهوبينا ومبدعينا؟ هذه أسئلة مهمة تدور في الذهن كلما رأينا الآخر يتقدم ونحن في موقف المتفرج المستهلك.. لنعد توجيه السؤال السابق: إلى متى يستمر موقفنا.. موقف المتفرج المستهلك؟ إننا كأمة عربية إسلامية نملك من الإمكانات والعقول والثروات ما لا يعفينا من مواقفنا المتخلفة من دول العالم وما لا يعفينا من بقائنا متفرجين مستهلكين. إن هذا يشعرنا بالدونية بين دول العالم، ولا أظن أن هناك ما يبرر ذلك. فكيف نقبل هذا الوضع على أنفسنا؟

أعتقد أن لدينا مشكلتين هما المسؤولتان عن وضعنا الحالي:

الأولى: أننا لم نستثمر حتى الآن بدرجة عالية مبدعينا ومخترعينا وموهوبينا، حيث كما يبدو اقتصر الأمر على الاحتفاء بهم وبإنجازهم كهدف أخير، علماً بأن هذه الخطوة تعتبر الأولى في مسيرة استثمار المبدعين والمخترعين والموهوبين. ويكون الاستثمار عن طريق مؤسسة خاصة تساعد هؤلاء المبدعين على تحويل إبداعاتهم واختراعاتهم في صناعات تدر على الوطن دخولاً توظف أبناءه.. هذا هو الهدف النهائي.. بكل موضوعية وصدق وشفافية مؤسسات الإبداع ليست مسؤولة وليس من اختصاصها إكمال المسيرة بعد اكتشافهم.. ليس هذا من صميم عملهم.. لا بد من إنشاء هيئة لرعاية هؤلاء المبدعين بعد تسجيل براءات اختراعاتهم. لقد تأخرنا كثيراً، وأخشى أن نتأخر أكثر فتضيع علينا فرص كثيرة.. مواردنا الطبيعية التي ننعم بها لن تستمر طويلاً.. وستحاسب الأجيال القادمة هذا الجيل وتعتبره مسؤولاً عما يحل بها بعد فترة نضوب النفط. براءات الاختراعات وصلت أعدادها الآلاف، ويمكن لهذه الاختراعات أن تدخلنا "اقتصاد المعرفة" من أوسع أبوابه، إلا أنها ظلت حبيسة الأدراج تكوّم الغبار. وظل أصحابها يعيشون مشاعر الإحباط مما حل بهم، وكونهم بارعين لا يعني أنهم مسوقون، هذا شيء آخر. لا بد من مساعدتهم لتسويق مخترعاتهم على شركات متخصصة، أو مساعدتهم للتسويق بإنشاء شركات لهم أنفسهم. هذا ما يحدث في العالم المتقدم، لا نحتاج إلى اختراع عجلة جديدة، العجلة مخترعة.. نرى ما يصنع العالم المتقدم ونسير على خطاه لنصل إلى ما وصل إليه، هذا ما فعلته كوريا، وتفعله ماليزيا والدول الجادة التي تريد اللحاق بركب العالم المتقدم. إن مخترعينا ومبدعينا ثروة.. لكنها ليست كأي ثروة، فكل الثروات تهدر وتنضب، إلا هذه الثروة التي أطلق عليها في هذا العصر الجديد المتميز ذي التحديات الكبيرة ثروة "اقتصاد المعرفة". إنها بكل بساطة غير قابلة للنضوب. الأمم المتقدمة كان سبب تقدمها البارزين المبدعين فيها، تستثمر الأموال الطائلة فيهم، في اكتشافهم، ومن ثم تربيتهم وتعليمهم وتدريبهم، ثم في رعاية منجزاتهم التي تشكل في مجملها منجزات الدولة نفسها. والدول والأمم لا تتقدم ولا تنجز دون الرعاية والاهتمام بالمبرّزين فيها. الذي نود قوله في النهاية هو الإسراع بتأسيس هيئة خاصة ترعى وتوجه اختراعات وابتكارات المخترعين والمبتكرين لتتحول إلى صناعة. لتحقق بذلك خطوة هامة وكبيرة ومنجزا كبيراً وضخماً في "اقتصاد المعرفة".

الثانية: التطرف في نقد الإنجازات. فإنجازات بعض مؤسساتنا تقابل بالتهكم والتجريح والحط من قدرها لأسباب عديدة وغير منطقية في أحيان كثيرة. نقف مواقف سلبية اتجاه أي إنجاز، ونعمل بكل ما أوتينا للحط من قدرها حتى تبدو تلك الإنجازات هامشية لا جدوى منها. في الوقت الذي يفترض أن نركز على الجوانب السلبية فيها لمساعدة القائمين عليها في تجاوزها وتعزيز المنجزات وتشجيعها. وللأسف فإن بعض المنابر الصحفية تمتلك عدسة ضيقة لا ترى إلا السلبيات ولا تتحدث إلا عن الأخطاء.. وليس لديها أي مسحة من التفاؤل.

وخلاصة القول، إلى متى نبقى في خانة الاستهلاك دون القفز إلى خانة الإنتاج؟ ما الأسباب؟ وهل عقول غيرنا أفضل من عقولنا أم أن هناك أسبابا أخرى؟ ما هي؟ لن يرحم التاريخ المقصرين.