كان إدوارد سعيد حاضرا معي بقوة يوم الاثنين الماضي، من خلال كل ما قاله في كتابه الاستشراق، فالمناسبة التي تذكرت فيها إدوارد سعيد كانت أثناء حضوري محاضرة بعنوان "الزيّ السعودي" في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن، وهي نفس الكلية التي أدرس بها، كانت المتحدثة في المحاضرة إيسي مارتينيز، وهي باحثة بمجال (الفن في التراث) وهو مشروع يقوم عليه معهد لندن لدراسات الشرق الأوسط، والدعوة كانت مفتوحة للجميع كغيرها من المحاضرات سواء في الجامعة أو المتاحف المنتشرة في بريطانيا، كمهتمة بهذا التخصص وكسعودية بشكل خاص أقوم بتتبعها، وأندهش دائماً كيف أن إدوارد سعيد ما زال حاضراً بقوة عندما أتذكر حججه الصادقة المتعلقة بمواضيع متصلة بهذا النوع من الدراسات والمحاضرات وفي مقدمتها أفكاره عن الهوية والإسلام والعرب والغرب.
فمنذ أن بدأت مارتينيز بالتحدث أصابني الذهول، وبدأ يرتفع عندي الضغط وينخفض السكر، وهذا نتاج طبيعي لما سمعته من معلومات مغلوطة وغير صحيحة أو غير دقيقة بالتعبير الأسلم، فهي قبل كل شيء أخذت بتقسيم مناطق المملكة العربية السعودية تقسيمها الخاص، وأعني بذلك أنها لم تستند على تصنيف الدولة للمناطق إدارياً، ولم تستند على التصنيف التاريخي للمنطقة، ولا حتى على التصنيف القبلي؛ بل قامت بدمج منطقة عسير ومنطقة جازان ومنطقة نجران ومنطقة الباحة في منطقة واحدة، فكونها تختزل تاريخ وثقافة وحضارة وفنون كل هذه المناطق بمنطقة واحدة فهذا يبين بل يؤكد نصيحة إدوارد سعيد للغرب "بأنه لمعرفة هويتك أو هوية الآخر فأنت تحتاج أن تعمل على عدة أصعدة منها الجانب الاجتماعي والتاريخي والفكري والسياسي للأفراد والمؤسسات". فكان هناك أيضاً تساؤلات من الحضور لمارتينيز على موضوع لبس الحرير والذهب وكيف يسمح المجتمع السعودي للنساء بلبسه وهو مجتمع إسلامي، لكن للأسف كانت مارتينيز لا تعلم أن لبس الذهب والحرير للنساء مباح وليس حراما، فإنهم لا يقومون بأخذ معلوماتهم الدينية من أمهات الكتب الفقهية، أو على الأقل الكتب التي توجد بها أحكام الفقه، وهي متوفرة بكثرة هنا في بريطانيا وبالمجان باللغة الإنجليزية أيضاً، فالمركز الثقافي الإسلامي بلندن هو مركز متكامل ومعروف محلياً وأكاديمياً. لكنهم يستقون معلوماتهم عن الإسلام تحديداً في المملكة العربية السعودية من خلال الإعلام، وكباحث علمي الإعلام ليس مصدرا يعتمد عليه في أي بحث أو دراسة.
فما تم ذكره هو جزء بسيط ممن أراه في بريطانيا من محاولات تدوين وتقييم وتصنيف لتراثنا من بعض المستشرقين الذين يظنون كما قال كارل ماركس "لا يمكن أن نمثل أنفسنا لابد أن نكون ممثلين"؛ فالاستشراق المعرفي خصوصاً في الدراسات الإنسانية خلق صورة اختزالية مشوهة وغير صحيحة عن الشرق وشعبه، وترك تراكمات ثقافية وأكاديمية اعتمدت عليها معظم المؤسسات التي غزت العقل الغربي عن الشرق والشرقيين، ونواجه دوماً صورة نمطية تقول إن هناك فرقاً وجودياً قائماً بين الطبيعة الشرقية والغربية مع تفوق الغرب بشكل حاسم، وهي منتشرة تحديداً عند قضية الثقافة والهوية على نحو ما يقول إدوارد سعيد إن "جوهر الاستشراق هو التمييز المتأصل بين التفوق الغربي والدونية الشرقية"!.
أستطيع أن أعزي الاستشراق السابق ولكن ما لا يمكنني إيجاد أي تبرير له استمراريته في زمن أصبح به العالم قرية صغيرة ووسيلة الاتصالات وتداول المعلومات أسهل وعند متناول اليد، وكما قال إدوارد سعيد إنه "بوسع أي فرد لديه حد أدنى من الفهم عن كيفية عمل الثقافات حقا، أن يعرف ما الذي تعنيه الثقافة، وما تمثله لأبنائها وأعضائها المنتسبين لها، كما يعلم ذلك المرء حتما مدى الجدال والخلاف الذي تمثله حتى في تلك المجتمعات غير الديمقراطية".
فلماذا لا يقوم المهتمون والباحثون خصوصا عندما نتحدث عن الدراسة الإنسانية بالسعي إلى تجاوز الناحية المثالية وتجاوز القيود القسرية على الفكر، ويسعون لنبذ الأفكار الاستشراقية الثقافية والفنية على حد سواء، وتبني الفكر الجوهري المتحرر من جميع القيود.