ماض وحاضر ومستقبل، علاقة تداخل أم تحلل؟ أم حراك مستمر ومتجسد في صراع الأفكار؟ فالفكر الماضوي وهو أن الماضي هو من يقرر ويسيطر، وعلى الفرد منا أن يتقبل ويطيع ويرضخ ويرضى، أما الفكر المستقبلي فهو أن الواقع يقرر رفض الماضي وعلى الجميع نبذه فلا مكان لانبعاث رائحته المنفرة.
الماضي دائما فعل قديم بحكم الطبيعة، متحلل بطبعه حسب الطبيعة الحتمية، والمستقبل حسب هذه الحتمية هو الوليد، وبالتالي فالماضي هو ما يجب أن يتحلل في طريقه تدريجيا نحو الزوال إذا ما سلمنا بذلك! وعادة ما يحدث رائحة كريهة نتيجة تحلله إذا ما كان فاسدا، كالجثة التي يجب أن تدفن على الفور، في نظر مقولة إن "إكرام الميت دفنه"، إكراما لها. إذ يجب ذلك حتى لا تظهر صورتها البشعة وهي تتحلل، هذا على المستوى الأول، أما على المستوى الثاني فهو أن نستمر في الحياة والأمل من بعدها، ولكي لا تصيبنا أمراض جسدية ونفسية مما نراه قد حل بها، فإما أن يدفن ذلك الماضي وإما أن يترك في العراء فتظهر عورته، ومن هنا كان الماضي دائما مستميتا في البقاء والتمسك بعرى الحياة والاستمرار فينا، لكي يظل نابضا بالحياة رافضا للتحلل! وعلى الجانب الآخر يظل المستقبل ينتفخ كالبالون الذي إذا ما ازداد الهواء بداخله عن حده انفجر، لأنه ينمو بطبيعة الحال، فهو وعي نام على الدوام، وهو أكثر وعيا وأكثر تحركا وأكثر تطلعاً للحياة، وليست لديه أية جاهزية للتحلل. ومن هنا يكون الصراع بين صراع البقاء وصراع الحياة لمولود جديد يتحرك في فضاء الوعي البشري، فلا يُغمض له جفن، فالإشكالية الكبيرة أن الماضي يحمل عناصر فنائه بداخله ولكنه يحمل أيضا عناصر البقاء فلا يتحلل، فيزيد من شدة الصراع. هذه العناصر تتحول إلى مسوخ وأشباح مرعبة، أما المستقبل فهو ينمو بداخله في سكون وترقب ينفجر في أي لحظة إذا لم يجد متنفسا، ومن هنا يصطدم بالماضي الذي هو حاضر في الوقت ذاته، فهل يدفن الماضي في مقبرة التاريخ سواء كان تاريخ الشعوب أو كان تاريخ الشخصية نفسها؟!
ومما يثير العجب، الخوف من جثة أحد موتانا لمجرد خروج الروح منها بالرغم من أنها بيننا مذ لحظات نقبل أطرافها ونحتضنها، وبمجرد تسليمها الروح لبارئها تتحول إلى شبح مفزع، لا لشيء إلا أنها أصبحت جزءا من الماضي الذي نحن مولعون بالتخلص منه! ومن هنا يظل هناك خوف مرعب من الماضي، فشبحه دائما يلوح في الأفق إذ لا مهرب من الماضي، وإن كان شبحا لا وجود له! إلا أنه يظل موجودا يتحرك بحماقة بيننا. فكما أن الماضي يحمل في طياته خصائص ثمينة وجميله إلا أنه يحمل أيضا عناصر مؤرقة للشخصية وعادة ما يتحلل الجميل منها، أما الرديء فهو دائما غير قابل للتحلل!
لم تكن هذه الفلسفة غائبة عن حقل التناول الفكري وطرحه للتداول بين شعوب الأرض، فقد طرح أغلب الكتاب الأميركيين هذا الفكر وهذه الشريعة، بين تمسك الماضي بالوجود وبين شخصيات بما حققته من مكاسب! حيث إن الماضي هو حاضر يتخذ منه صراعه للمستقبل المحتمل في مزرعة مثمرة يتمسك بها الكاسبون. فكانت "تيمة" مطاردة الماضي للشخصيات مسيطرة على جميع النصوص الأميركية في القرن العشرين في نصوص يوجين أونيل ونصوص آرثر ميلر وغيرهما، حيث كان الماضي يطارد شخصياتهم على الدوام كما طرحه يوجين أونيل في مسرحية رغبة تحت أشجار الدردار. وقد تلامس هذا الطرح مع كتابات إميل زولا الكاتب الفرنسي والكاتب السويدي أوغست سترند برج والكاتب النرويجي إبسن، في جعلهم انبعاث الماضي مؤرقا للشخصيات مثال: ظهور ذلك الإيصال القديم في حياة نورا في مسرحية بيت الدمية وهدد استقرارها مع زوجها جروجشتات وأولادها بالرغم من مثالية الشخصية ونضجها. فجعل إبسن من مسرحياته مرآة للعصر والمجتمع، ونفذ إلى صميم المشكلات الاجتماعية وجعلها تصور مأساة الإنسان وصراعه مع القوى الاجتماعية وأشباح الماضي والعادات والتقاليد السائدة كما فعل الكتاب الآخرون.
وهذا الشبح يلوح مجددا في الأفق ويقضي مضجع هاملت في الدراما الإنجليزية للكاتب الشهير شكسبير، فيخلق نوعا من الفزع والصراع بين المستقبل المتمثل في دولة هانئة على يد قتلة الرئيس وزوجته، وبين ماض يرفض أن يستكين، لأنه يرفض التحلل وهو فعل الاغتيال. ولم يخالفهم في هذا الطرح سوى الدراما الروسية التي اتخذت من الحاضر مناخا دراميا لها كما في أعمال تشيخوف المسرحية، إلا أنه طرح يعود مرة أخرى ليجعل الواقع يتحلل ويتآكل فيه بشكل دائم. وكذا وجدنا هذه التيمة أيضا لدى كتاب عرب مثل ما حدث في مسرحية "الواد غراب والقمر" للكاتب أشرف عزب، حيث إن جميع شخوص المسرحية (ولادة وزين، والعمدة) جميعهم طاردتهم أفعال ماضوية شائنة، وارتكاب أخطاء يرفضها الواقع، فتتهاوى في براثن الماضي كالفراشات في محيط اللهب.
إذا كان المستقبل يصر على المرفوض دائما، فهو بطبيعة الحال يجب ألا يعمل على ما يسمى مرفوضا، لأن تلك المرفوضات بطبيعة الحال تتحول إلى بالونات شبحية تقوض استقرار الحاضر وتهدد المستقبل، إذ لا فكاك دائما من الماضي.