لا أقصد بالتعددية هنا، التعددية السياسية أو الاعتراف بتعدد الأحزاب في المجتمع كما يفهمها البعض، وإنما أعني بالتعددية على مستوى الأديان والمذاهب والطوائف والثقافات والأفكار والنظريات، فقد درج العديد من المجتمعات الإسلامية في وقتنا الحاضر على الانفراد برؤية معينة في مجال الدين أو الأخلاق في تنظيم أمور المجتمع؛ بحيث يتخذ كل مذهب أو طائفة أيدلوجية معينة ويلتزم بقيم دينية يحاول فرضها على الجميع في مقابل تعدد المذاهب والمعتقدات والأفكار.

وسلاحهم في ذلك مبدأ "عدم الاقتراب أو الإخلال بالثوابت والأصول"، فبعض أتباع المذاهب الإسلامية يكفرون المذاهب الأخرى أو يزعمون أنها على باطل بحجة أنهم يختلفون معها في الثوابت والأصول، وإذا أرادوا التسامح معها قالوا: "إنما الاختلاف في الفروع والمتغيرات"، وليس هذا فحسب بل يتصدون لأي فكرة أو نظرية جديدة تحاول فهم وتفسير النصوص الإسلامية، أو التجديد في الأحكام الفقهية، بالحكم على صاحبها بالزيغ والضلال وابتغاء الفتنة ونشر الشبهات!.

ويستند البعض على ما سبق بقوله تعالى:{هو الذي أَنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأَما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويلَه إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} آل عمران7، ويرون أن هذه الآية تعتبر: "حجة تدفع الخصوم وأهل الزيغ، لأنهم إنما فتنوا وزاغوا لما تركوا المحكمات، وهي حجة عليهم تكشف باطلهم وتدحضه، وكذلك صنع العلماء في الرد عليهم".

وبالطبع فإن كل طائفة أو مذهب ديني لديه مفهوم خاص لمعنى "المحكمات والمتشابهات"، و"الراسخون في العلم" هم العلماء ورجال الدين لكل مذهب، وبناءً على هذا المفهوم فإن أية آراء أو نظريات تخالف مفاهيم مذهب معين فإن ذلك يعني مخالفة الثوابت والأصول في الدين، وأية آراء جديدة في فهم الدين تخالف الفكر السائد معناها إتباع المتشابهات وبالتالي ابتغاء الفتنة.

وبناءً على ما سبق، نصل إلى نتيجة مفادها: تعطيل إعمال العقل والفهم وضيق المعرفة وتقديس الآراء الشخصية، وإقصاء المخالف، والبقاء على الموروث القديم وتعطيل مصالح المجتمع، ولا مجال هنا للتعددية والاختلاف.

لا أريد أن يفهم من قولي السابق بأني أعني النسبية في الحق كما يتوهم البعض بل النسبية في فهم الحق، فكل طائفة ترى الحق بمنظار معين، وبالتالي ما يعتبر عند طائفة أو مذهب ما من الثوابت قد يكون عند طائفة أخرى من المتغيرات، والعكس صحيح، والوصول إلى أفضل فهم للحقيقة يكون في أجواء مفتوحة ومنفتحة على الآخر والمحيط الحر يختلف اختلافاً جوهرياً عن الوصول إلى الحق في أفق مغلق.

وإذا كان الهدف من التأويل هو تحقيق الفهم وتوسعته أو تجديده ولا يكون تحقيق ذلك الفهم إلا بمزيد من البحث والدراسة وبمزيد من محاولات كشف المفهوم وإيضاحه، كما أن الأدوات المعرفية تزداد يوماً بعد يوم في وقتنا الحاضر، مما يعطي رغبة قوية وأكثر من ذي قبل للإنسان في حب المعرفة والفهم ، فكيف يتم الحكم على الأفكار الجديدة ومحاولة الفهم بأن الهدف منها هو ابتغاء الفتنة أو نفي وإبطال مفهوم الثوابت الشرعية والمحكمات الدينية؟، هناك فرق بين من يريد المعرفة والزيادة في العلم ونفع الناس، وبين من يبتغي القتال والعنف والفتنة التي ما زال البعض غارقاً فيها.

من يقرأ التاريخ الإسلامي يجد أن علماء المسلمين الأوائل -رحمهم الله- قد اختلفوا في تحديد معنى "المحكمات والمتشابهات"، واختلفوا أيضاً في تحديد معنى "التفسير والتأويل" ولم يتم تحديد أو حصر المحكمات والمتشابهات، وإنما اجتهد البعض منهم في التمثيل لها بشكل عام، ومن ذلك على سبيل المثال تحديد الآيات التي تشتمل على عدد من المحكمات حسب رأي البعض منها: (وجوب بر الوالدين والإحسان إليهما، وجوب حفظ المال وأداء الحقوق، وجوب الوفاء بالعهد)، وبالطبع فإن مثل هذه الأمور تعتبر من المبادئ العامة التي يختلف الناس في آليات ووسائل تحقيقها تماماً مثل ما اشتهر عند علماء المسلمين بالضرورات الخمس.

وبالإضافة إلى ما سبق، اختلف المسلمون في كثير من الأحكام الشرعية والفقهية فيما بينهم، مثل شؤون التجارة وشؤون الزواج والطلاق والميراث وولاية المرأة وغيرها، في حين هناك من يعتبر مثل هذه الأمور من شرائع الإسلام القطعية والثابتة، فإذا كان العلماء لم يستطيعوا تحديد طبائع النصوص من حيث القطعية والظنية، ومن حيث الإحكام والتشابه، ولم يتمكنوا من التحديد الدقيق للثوابت والمتغيرات، واختلفوا في ذلك كثيراً، فكيف استطاع البعض الحكم على الأشياء على أنها ثابتة أو متغيرة، ومصادرة أو إقصاء آراء الآخرين بحجة مخالفة الثوابت؟

خلاصة القول إن التعددية ليست من المفاهيم الجديدة الوافدة إلينا من الغرب بل هي نتاج إسلامي خالص، يقول الله عزّ وجل : {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلَهم أَجرهم عند ربهم ولا خوف علَيهم ولا هم يحزنون }البقرة62، ولكن التعصب المذهبي والديني عند البعض، أفرز نوعا من الصراع والقتال في تاريخ الإسلام تراكم على مر العصور، مما أثر بالسلب على جوهر الدين وصفائه.

لكل طائفة دينية أدلتها وقناعتها التي تعتقد أنها توصلها إلى الحق، وعلى المسلم أن يتحرك ويتعامل مع الآخر بدافع الحس الإنساني وعنصر الخير، لا أن يتحرك بدافع الأنانية والشر والعدوان على الآخرين مهما كان دينه ومذهبه وفكره، كما يجب نشر روح التسامح التي أمر بها الإسلام.