بغض النظر عن الاتهامات المتبادلة بين الحكومة والإخوان المسلمين، وبين المعارضة المصرية التي تقودها جبهة الإنقاذ، فإن الذي لا شك فيه أن مصر تمر الآن بوضع صعب، يهدد استقرارها وأمنها، وينذر بانهيار أقدم دولة صنعها الإنسان في التاريخ.
هذا التقرير، هو محصلة رصد لما يجري من أحداث في عموم المدن المصرية، من انفلات أمني، وعجز واضح للسلطة عن تلبية المطالب الأساسية التي من أجلها انطلقت ثورة 25 يناير عام 2011. وقد عبرت تصريحات وزير الدفاع، عبدالفتاح السيسي في لقاء حضره كبار قادة القوات المسلحة مع طلاب الكلية الحربية، عن ذلك بوضوح. فقد أكد على ضرورة مواجهة المخاطر التي تمثل "تهديدا حقيقيا لأمن مصر وتماسك الدولة"، وأشار إلى أن "عدم معالجة هذا المشهد من كل الأطراف سيؤدي إلى عواقب وخيمة تؤثر في ثبات واستقرار الوطن"، ورأى أن "استمرار صراع مختلف القوى السياسية واختلافها على إدارة البلاد يؤدي إلى انهيار الدولة ويهدد مستقبل الأجيال القادمة".
وعلى نقيض ما توقعه كثيرون، من أن انتفاضة يناير 2011 سوف تؤدي إلى تحقيق ميزان العدل، والنهوض بمصر، لتلعب دورها التاريخي المنوط بها، فإن ما تحقق على أرض الواقع هو مزيد من الخيبات وفقدان الأمل. وقد دفعت حالة الانهيار بالدكتور يحيى الجمل، المفكر والقانوني المعروف، باتهام الحكم بالسير على نهج بغيض، مصحوب بقدر كبير من الغباء العقلي، والإساءة إلى الإسلام السمح. ومحاولة السيطرة على مفاصل الدولة بهدف واضح هو الحيلولة دون تداول السلطة.
دفعت هذه الأوضاع المزرية لقيام جبهة إنقاذ وطني، وضعت في قائمة أولوياتها، إلغاء الإعلانات الدستورية التي صدرت في الفترة الأخيرة وإيقاف العمل بالدستور الذي أعدته الجمعية التأسيسية، والعمل موقتا ولمدة لا تزيد على عامين بدستور 1971 على أن تنتخب لجنة تأسيسية من الشعب بهدف وضع دستور جديد يليق بمصر ويؤكد هوية الدولة المدنية الديموقراطية، وينص على التعددية السياسية الحقيقية ويضع آليات تداول السلطة ويتبنى مفاهيم حقوق الإنسان، وتأكيد سيادة القانون واستقلال القضاء، ومراعاة القواعد القانونية، وفي مقدمتها القواعد الدستورية، باعتبارها قواعد عامة لا تخص جهة دون أخرى.
ورغم أن جرس الإنذار قد دق، مشيرا إلى تردي الأوضاع على كل الأصعدة، والعجز عن معالجة الأزمات الاقتصادية، بما فيها البطالة وارتفاع أسعار السلع الغذائية والخدمية، فإن ما شهدته البلاد منذ الاحتفال بمرور عامين على "ثورة 25 يناير" هو شيء مختلف تماما، شيء ينذر بانهيار السلطة وتفتيت البلاد، وصعوبة عودة الأمور إلى ما كانت عليه من قبل.
ففي 25/ 26 يناير 2013، وبعد إعلان محكمة جنايات بورسعيد بإدانة 21 متهما بقتل مشجعي النادي الأهلي في ما عرف بـ"مجزرة بورسعيد"، سقط أكثر من 40 قتيلا جراء المظاهرات التي اندلعت بالمدينة، رفضا لهذا الحكم. وسقط مئات الجرحى في مظاهرات دعت لإسقاط "حكم الإخوان" في السويس والقاهرة وعدد آخر من مدن المحافظات. وتجاوب المصريون مع هذه المظاهرات، في محافظات قناة السويس. وقد دفعت هذه التداعيات برئيس الجمهورية الدكتور مرسي لإعلان حالة الطوارئ وحظر التجول بالمدن التي طالتها التظاهرات ابتداء من التاسعة مساء وحتى السادسة صباحا ولمدة شهر. وتحدى المتظاهرون في مدينة الإسماعيلية قرار حظر التجوال، وتواصلت المظاهرات في بورسعيد والسويس مطالبة بإسقاط النظام و"حكم المرشد".
اللافت في الأمر أن قوات الشرطة، لم تفشل فقط في فرض حظر التجوال، بل امتنعت عن التصدي للمتظاهرين الذين تحدوا قرار الحظر الصادر عن أعلى موقع في الدولة. والأنكي من ذلك، هو بروز اسم تنظيم عسكري سري، ليس بالجيش كما جرت العادة، ولكن في صفوف الشرطة. حيث صدرت بيانات عن هذا التنظيم تطالب بالتمرد على أوامر وزير الداخلية. وقام أفراد هذا التنظيم بتسليم المدرعات التي بإمرتهم للمتظاهرين.
لا يبدو في الأفق ما يشير إلى أن الأزمة تتجه إلى نهاياتها، فالإخوان الذين وصلوا إلى السلطة، مع بدايات المرحلة الانتقالية، لما جرى التعارف عليه بالجمهورية الثانية، تناسوا أن طبيعة هذه المرحلة تقتضي التوافق، وعدم تغول مفهوم الغلبة، الذي يعني إقصاء الآخرين والاستئثار بالسلطة. والفرق بين المرحلة الانتقالية وما بعدها كبير جدا.
في المرحلة الانتقالية، يستمد القادة حضورهم من مشروعية التغيير. بمعنى أن القادة الجدد يستلهمون قوتهم من خلال أدوارهم في عملية التغيير، وليس عن طريق صناديق الاقتراع. وإذا ما أخذنا هذه الحقيقة بعين الاعتبار، فإن الذين حركوا الميادين في القاهرة وغالبية المدن المصرية ليسوا الإخوان المسلمين وحدهم، بل كثير من الهيئات والأحزاب، التي تمثل العمود الفقري للمعارضة الآن، وبضمهم جبهة الإنقاذ. بل إن أقطاب المعارضة، يشيرون إلى أدوار متواضعة للإخوان في الميادين، ويؤكدون أنهم لم يلتحقوا بعملية التغيير إلا في 28 يناير 2011، أي بعد ثلاثة أيام من اندلاع الحركة الاحتجاجية، وبعد أن اتضح لهم أن الانتفاضة عبرت البرزخ، وأصبح بحكم المؤكد قدرتها على إحداث التغيير.
لقد أجريت الانتخابات البرلمانية، برعاية المجلس العسكري الأعلى، في الأيام الأولى للمرحلة الانتقالية. وبالمثل، جرت انتخابات مجلس الشورى، ولاحقا انتخاب رئيس الجمهورية. تخلى المجلس العسكري عن السلطة، قبل اكتمال متطلبات هذه المرحلة، فكانت النتيجة، أن تم القفز إلى مرحلة الدولة المدنية، قبل استكمال شروطها، وفي مقدمتها صدور دستور توافقي، يعبر عن مختلف توجهات نسيج المجتمع المصري، وليس تعبيرا عن مفهوم الغلبة.
السؤال المحير الذي يواجه جل المهتمين بالأوضاع في مصر، ما هي سبل الخروج من هذه الأزمة؟ المؤكد أن الإخوان بما لديهم فرحون، وأنهم لن يتنازلوا قيد أنملة عن الغنائم التي حصلوا عليها، حتى لو تسبب ذلك في إحراق مصر. والمؤكد أيضا، أن الجيش كان باستمرار الحصن الحصين والملاذ الأخير، لإنقاذ مصر، منذ قاد محمد على باشا ثورته على المماليك حتى يومنا هذا. وكان هذا الجيش هو الذي حمى مصر من التمزق، بنزوله إلى الشارع، وانحيازه للتغيير أثناء ثورة 25 يناير.
ما هو متوفر من معلومات حتى هذه اللحظة، لا يشي أن الجيش قد حسم أمره، وقرر التدخل مرة أخرى لحماية أمن واستقرار ووحدة مصر. الأمر الواضح أن الجيش يقف على الحياد. فهو لم يسند الرئيس الذي لم يحترم مبادرته التي أطلقها منذ شهرين، لعقد لقاء وطني يجمع كل رموز القوى السياسية مع الرئيس، كما أنه لم يعلن موقفا صريحا من تأييد المطالب الشعبية.
لكن آخرين، وجدوا في تصريح وزير الدفاع، الفريق السيسي عن مسؤولية كافة الأطراف في انهيار الدولة، إيحاء بأن القوات المسلحة سوف تتدخل لضبط الأمن، إذا ما تردّى الوضع وهددت المؤسسات والمرافق العامة، بما يعني في نهاية المطاف، إزاحة مرسي عن كرسي الرئاسة، إذا ما أصر على رفض مطالب المعارضة. التي ترى أن الحل يكمن في تأليف حكومة إنقاذ وطني.
وهكذا فإننا في الغالب، أمام احتمالات ثلاثة، إما تشكيل حكومة إنقاذ وطني، أو تدخل القوات المسلحة أو انهيار الدولة المصرية... ورحم الله المتنبي حيث يقول: وكم ذا بمصر من المضحكات، ولكنه ضحك كالبكاء.