كثيرة هي المؤلفات والطروحات الغربية التي تدعو لإعمال العقل والتفكير.. وتبنى نظريات التعليم الحديثة التي بموجبها يتم تعليم التفكير لتحقيق هدف الإبداع.. وسنقوم هنا بعرض بعض تلك الطروحات لكن قبل ذلك نود الإشارة إلى أن ديننا الحنيف كان له السبق في التحريض على إعمال العقل واستخدامه كسمة ميز الله بها البشر دون باقي مخلوقاته.. وكثيرة هي الآيات في القرآن الكريم التي تدعو إلى التدبر والتفكر وإعمال العقل والثناء على أصحاب الألباب.. ونعرف جميعا أن الذين يتميزون بعقولهم وفكرهم ورأيهم ينجحون في أعمالهم ويحققون مراكز متقدمة في أي مجال من المجالات.. ولا أريد هنا أن أسترسل في الطرح الديني خوفا من المزالق إلا أن الله سبحانه وتعالى أثنى على من يتمتع بعقل مميز يوصله لدرجة العلماء الذين قال الله فيهم: "إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ.."، ونحن المسلمين لا نعتز فقط بأن ديننا أول من دعا إلى إعمال العقل لكن أيضا تفعيل هذه الدعوة لكي تكون الأمة في مقدمة الأمم.. والحقيقة أن سبب تفوق الغرب علينا هو أنه انتهج هذا المنهج وطبقه، بل ونجح في تطبيقه.. ونحن الأولى بهذا التطبيق لأنه جزء من معتقدنا.. ولن تكون هناك أمة من الأمم يمكن أن تسود دون أن تعمل العقل.. والغرب آمن بهذا التوجه وطبقه.. وفي هذا السياق قال ونستون تشرشل ذات مرة "إن إمبراطورية المستقبل الحقيقية هي إمبراطورية العقل" بهذا المفهوم انطلقت النظريات الغربية وعلماء الغرب في محاولات حثيثة لتطبيق هذا المنهج.. ومن أبرز هؤلاء "هاورد جاردنر" حيث كان البناء الأساسي للأفكار التي قدمها في كتابه المميز "خمسة عقول five minds"، وهاورد جاردنر ذو الخمسة والسبعين ربيعا هو أستاذ علم النفس في جامعة هارفرد وله كرسي لعلم الإدراك والتربية في الجامعة نفسها، وهو صاحب نظرية تعدد الذكاء "multiple intelligence" التي بدأها بسبعة أنواع من الذكاء وأضاف عليها مؤخرا نوعين، وأحدثت نظريته ثورة في علم الإدراك، وعلى غير توقعه تناول المهتمون بالتربية والتعليم نظريته وأسسوا مدارس تطبق نظريته في أنحاء كثيرة من العالم، فبهذه النظرية نسف النظرية النصفية للعقل المعروفة ووظائف كل نصف، وأثبت أن من نعتقد أنه متأخر دراسيا يمكن أن يكون عبقريا في واحد من المجالات التسعة التي طرحها.. هذا ليس موضوعنا اليوم لكنني أردت أن أقدم لصاحب الكتاب الذي سأتناوله هنا، هاورد جاردنر محلل بارز للعقل البشري على مدى العشرين عاما الماضية. في عام 1983 ظهر كتابه إطارات العقل "frames of mind" الذي أوضح فيه أننا لا يجب أن ننظر إلى الذكاء على أنه قدرة نوعية مفردة بل إن العقل البشري يمكن أن يظهر تسعة أنواع من الذكاء. وكتابه الجديد "خمسة عقول" لا يتعارض مع نظرية الذكاء المتعدد التي يطرحها. فهذا الكتاب ينظر إلى الطرق والأساليب التي يحتاجها المديرون والموظفون ليعملوا بنجاح في القرن الحادي والعشرين.

جاردنر عرض الأنواع الخمسة من العقول المختلفة الآتية: 1- العقل المنضبط: وهو العقل الذي يمتلك طريقة واحدة على الأقل للتفكير، وبدون امتلاك طريقة واحدة للتفكير المنضبط سيعمل هذا العقل على نغمة إيقاع شخص آخر. 2- العقل الرابط: وهو العقل الذي يأخذ معلومات من مصادر مختلفة ويربط بينها ويقدمها في إطار منطقي جديد ومفيد. ومن المهم جدا أن يقوم هذا العقل بربط أكبر قدر من المعلومات بحكم تميز هذا العصر بالكم الهائل من المعلومات المنهمرة على مدار الساعة وبشكل مذهل، فهذا عصر المعلومات. 3- العقل المبتكر: وهو العقل الذي يأتي بالجديد دائما "breaks new ground" ويبتكر طرقا جديدة وأساليب جديدة ويطرح أسئلة غير متوقعة ولديه القدرة على الحدس بطرق تفكير غير مسبوقة، والوصول إلى إجابات غير متوقعة، وبهذا فإن العقل المبتكر يبحث عن البقاء سابقا للكمبيوتر بخطوة واحدة. 4- العقل الذي يحترم الآخرين "respectful"، وهو العقل الذي يلاحظ الاختلافات بين أفراد البشر وجماعاتهم ويحترمها ويقبلها. يقول جاردنر "لن يكون عدم التسامح وعدم الاحترام خيارين مقبولين وقابلين للتطبيق في عالم نحن فيه مترابطون ومتشابكون. 5- وأخيرا العقل الأخلاقي: "ethical" وهو العقل الذي يتصور كيف يقوم جميع العاملين بتحقيق أهداف عملهم بطريقة بعيدة عن مصالحهم الشخصية، ويعمل العقل الأخلاقي بناء على هذه المعايير.

ولا يدعي جاردنر أن هذه الأنواع تمثل كل أنواع العقل التي يجب أن نبنيها فينا، لكنه يدعي الأهمية القصوى لطلب هذه الأنواع في تحقيق أهداف العمل وإنجازه بمستوى عالي الجودة. فالنجاح كما يقول "في العالم الجديد يتطلب تمكننا من الانضباط المهني، الشعور بثقل الكم الهائل من المعلومات وما يتبعه من عجز وتكاسل، سمات الذين لا يستطيعون ربط المعلومات ببعضها، والإبداع يضعنا بعيدين عن مكائن الذكاء التي تهدد بجعل غير القادرين من الأفراد أفرادا عديمي الفائدة وعبئا على المجتمع.

هذه المفاهيم معروفة منذ سنين لكن حدة وطبيعة التحدي اليوم زادت من الحاجة إليها.. ويقول جاردنر إن الأفراد الذين لديهم احترام لا يستحقون احترام الآخرين، بل إنهم يسممون مكان العمل، بينما الناس بدون أخلاقيات ينتجون عالما خاليا من عاملين يتسمون بالآداب ومواطنين يتسمون بالمسؤولية.

لقد وضع جاردنر أصبعه على بعض الصفات المهمة التي تتطلبها المهنية في أي عمل في هذا العصر، عصر التحديات الكبيرة. لكنه في الوقت نفسه وبنفس درجة الأهمية يحذرنا جاردنر بالانتباه لزملاء العمل الذين يبدون متظاهرين باكتسابهم بهذه المهارات المهمة، لكنه في الوقت نفسه يتصنعونها: "انتبهوا مثلا لأولئك الذين يدعون معرفة بالأمر دون تمتعهم بالخبرة الكافية، المزيفين لزعمهم بإجادة ربط المعارف والمعلومات بينما يقومون بربط عشوائي للمعلومات والمعارف، المدعين الإبداع الذين يملون أفكارا لا تتسم بالعمق أو الجدية، المدعين الاحترام الذين بجهالة يتسامحون، وأبطال الأخلاقيات الذين تقصر معاييرهم الشخصية المبادئ التي ينادون بها. ويعد هذا الكتاب عملا جيدا بالرغم من ظن جاردنر أن تطبيقها أمر ليس سهلا. "إن زمننا عصيب حتى لو كنا نملك عقولا جيدة، ومن الصعب أن تكون محترما للبعض عندما يكون الجدل حول السياسة أو الإعلام، ومن الصعب أن تتصرف بأخلاقيات عندما تكون المكافآت والشهرة والمال موجهة لأناس لا أخلاقيات لديهم ولا يحاسبهم المجتمع على تصرفاتهم.

وخلاصة القول.. إن إعمال العقل منهج رباني حث عليه ديننا الإسلامي وسبقنا الغرب في تطبيقه وتفوقوا علينا فهل نعود لمنهجنا ونحقق المكانة اللائقة بنا؟ يا رب..