كشفت الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، عن وجود تحولات عميقة داخل إسرائيل. ما أفرزته نتائج هذه الانتخابات لا يتعلق فقط بمسألة التقدم الذي أحرزه اليسار السياسي، وهو أكثر ما أثار انتباه وسائل الإعلام، ففي الواقع تعد الخريطة السياسية الإسرائيلية أعقد مما ينقله إعلامنا عن الواقع السياسي الإسرائيلي. ففي داخل الخريطة السياسية، هناك تتنوع التفاصيل، وتتعدد نقاط الخلاف، وفي ذات الوقت يتكشف أيضا وجود خطاب سياسي موحد ينمو تدريجيا، وسيصبح مع الوقت عنوان التغير الهيكلي، الذي سيحدد توجه السياسة الإسرائيلية مستقبلا.

أظهرت هذه الانتخابات أن الخطاب السياسي للأحزاب التقليدية القديمة في إسرائيل، بصدد الأفول مقابل صعود خطاب سياسي جديد، قائم على مرتكزات مختلفة تماما عما كانت الأحزاب السياسية تتبناه. حزب "كاديما" هو العنوان الأبرز في هذه الحالة، إذ خسر 28 مقعدا في البرلمان لينتهي به الحال في هذه الانتخابات بمقعدين فقط. حزب "الليكود" المتحالف مع حزب "إسرائيل بيتنا" خسر 11 مقعدا مقارنة بالبرلمان السابق، وما أنقذ هذا التحالف هو قاعدة الناخبين الروس المؤيدين لأفيغدور ليبرمان وحزبه. شكل انقسام الليكود من الداخل حالة جديرة بالتنبه، إذ أظهرت الانتخابات الداخلية لليكود، فوز الجناح الأكثر تشددا داخل الحزب من أمثال موشيه فيغلين، الذي ينادي بسحب الجنسية الإسرائيلية من عرب 48، ويرفض حل الدولتين، ولولا وجود بعض التأييد من قاعدة الصهيونيين المتشددين لحزب الليكود، لربما كان مصيره خسارة المزيد من المقاعد. من جهة أخرى تمكن حزب العمل من الحفاظ على وجوده، واكتساب مقعدين إضافيين فقط من خلال تبني خطاب جديد تماما، فرئيسة الحزب شيللي يحيموفيتش، جعلت حملة حزب العمل تركز على القضايا السياسية والاجتماعية، مع تهميش موقف الحزب من السياسة الخارجية وعملية السلام قدر المستطاع، وهو ما يشكل تغيرا تاريخيا بالنسبة لحزب العمل الذي طالما تبنى موقفا واضحا بخصوص عملية السلام مقارنة بالأحزاب الأخرى.

في مقابل هذا، برز صعود خطاب سياسي جديد في إسرائيل من خلال فوز أحزاب غير تقليدية، هذا الخطاب الجديد يعد أكثر استقطابا بين أقصى اليمين واليسار السياسيين، فبينما يتبنى حزب "ميريتز" عقيدة سياسية يسارية قائمة على السلام مع الفلسطينيين، من خلال حل الدولتين وحقوق الإنسان والأقليات، يتبنى حزب "البيت اليهودي" عقيدة سياسية قائمة على رفض السلام ودعم الاستيطان، وضم الأراضي المحتلة رسميا لإسرائيل annexation، هذا الاستقطاب الإسرائيلي الداخلي، لم يكسره سوى صعود خطاب سياسي وسطي، قائم على التركيز على القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي يرى 50% من الإسرائيليين أنها المسألة الرئيسة. لذلك جاء فوز حزب العمل بـ15 مقعدا، وكذلك الحزب الجديد الصاعد "يش عتيد" بقيادة يائير لابيد بـ19 مقعدا، إذ تبنى كلاهما حملة انتخابية ترتكز على قضايا الاقتصاد والشأن الداخلي الإسرائيلي.

القضايا الداخلية باتت تمثل الأولوية للإسرائيليين، فالاقتصاد وقضية تجنيد اليهود الأرثوذوكس (الحريدم) المعفيين من التجنيد، وتوسيع الاستيطان، كلها قضايا تتقدم على السلام مع الفلسطينيين أوالتهديد النووي الإيراني. وقد أظهرت الانتخابات هذا الأمر بوضوح، فنتنياهو اعتمد التركيز على مسألة الأمن والتهديد النووي الإيراني، و"كاديما" وحزب "هاتوناه" الجديد بقيادة تسيبي ليفني ركزا على مسألة مفاوضات السلام، وجميعها خسر مقابل الأحزاب التي ركزت على قضايا داخلية مثل أحزاب "العمل" و"يش عتيد" و"البيت اليهودي".

باستثناء الأحزاب الدينية الأرثوذكسية المتشددة، كحزبي "شاس" و"يهوديت هتوراة"، فإن جميع الأحزاب تؤيد تجنيد اليهود المتشددين (الحريدم) في الجيش، وهي واحدة من القضايا الرئيسة اليوم داخل إسرائيل وأحد أسباب الدعوة لانتخابات مبكرة، وباستثناء حزبي:"ميريتز" و"العمل" – إلى حد ما – تؤيد غالبية الأحزاب سياسة الاستيطان. وبالتالي فإن نتيجة الانتخابات تكشف أنه بالقدر الذي تتسع فيه الفجوة بين الأحزاب السياسية الإسرائيلية بناء على خلافات داخلية تتعلق بسير السياسات العامة، بقدر ما تتفق غالبية الأحزاب على الخطوط العامة للخطاب السياسي الإسرائيلي، وهو خطاب صاعد معاد لأسس صنع السلام الرئيسة من خلال دعم الاستيطان. حزب "يش عتيد" الذي حل ثانيا في الانتخابات، واتخذته الصحافة العالمية مثالا لصعود يسار الوسط السياسي الإسرائيلي، ليس في الواقع سوى حزب يمثل اختلافا إجرائيا عن أحزاب اليمين، فرئيسه يائير لابيد، ليس مؤيدا للسلام، بقدر ما هو مؤيد لمسألة تحسين العلاقة مع الولايات المتحدة، كأساس لصيانة أمن إسرائيل، وبالتالي فاختلافه مع أحزاب اليمين هنا هو اختلاف براجماتي حول "طريقة إدارة السياسة" وليس "توجهها". يائير لابيد، أطلق حملته الانتخابية من مستوطنة آرييل – أكبر المستوطنات الإسرائيلية – ورغم أنه في حملته دعا لاستئناف المفاوضات مع الفلسطينيين، فإنه لم يعارض سياسية الاستيطان بعمومية، وهذا دليل على أن لابيد الذي ينظر له على أنه نجم اليسار الجديد، ليس سوى نسخة مخففة جدا من اليمين الإسرائيلي، الذي لا يرى فرصة للسلام. الصورة العامة لنتائج الانتخابات الإسرائيلية، تقود بالتالي لمشهد فيه أكثر من 85 مقعدا من الكنيسيت "من أصل 120" مؤيدا لسياسة الاستيطان، ورفض السلام مع الفلسطينيين من ناحية المبدأ، وإن كانوا يختلفون حول كيفية تطبيق هذه السياسة، إذ تؤيد الأحزاب الأكثر ميلا نحو اليسار "أمثال يش عتيد وكاديما وهاتوناه وبعض سياسي العمل والليكود"، تخفيف الخطاب السياسي إرضاء لأميركا، في مقابل تأييد الأحزاب الأكثر ميلا لليمين لتصعيد الخطاب السياسي وإن تعارض مع السياسة الأميركية "أمثال البيت اليهودي وشاس ويهوديت هاتوراة وإسرائيل بيتنا والليكود". بهذه الانتخابات أصبح المتدينون "يرمز لهم بلابسي الطواقي اليهودية Kippah" ثلث أعضاء الكنيسيت الإسرائيلي، وتلك نسبة أكثر من أي وقت مضى. وهو ما يتواءم مع القراءة العامة للسياسة الإسرائيلية، التي ترى أن الخطاب السياسي هناك يتجه نحو اليمين السياسي، ونحو التشدد أكثر مع الوقت. صعود يائير لابيد وحزبه "يش عتيد"، ليس سوى رد فعل لتردي العلاقة مع الولايات المتحدة، ومحاولة لإعادة التطبيع السياسي معها، وإلا فإن نتيجة الانتخابات بشكل عام، تمثل تصويتا شعبيا ضد السلام مع الفلسطينيين – أو على أقل تقدير فقدان المجتمع الإسرائيلي بإمكانية تحقيقه – وهو ما يتضح أكثر من خلال فوز حزب العمل بعد عزوفه عن وضع السلام كأولوية في حملته.

الخطاب السياسي الإسرائيلي الصاعد إذًا بعد الانتخابات الأخيرة، هو خطاب أكثر معاداة للسلام، وإن اتخذ أوجها متعددة على سبيل الوسائل السياسية الإجرائية. وبقدر ما أظهرت هذه الانتخابات تنوع القاعدة السياسية التي يؤيدها الإسرائيليون، من خلال غياب حزب مهيمن على البرلمان، بقدر ما تظهر الانتخابات صعود خطاب سياسي إسرائيلي عام جديد أكثر يمينية وتطرفا، وهو ما سينعكس على الوضع الإقليمي ومسألة السلام. وسيكون السؤال الأكبر في المدة القادمة، هو كيف ستتعامل الولايات المتحدة مع هذا الأمر، خاصة وأن إدارتي واشنطن وتل أبيب تبدأن انطلاقة جديدة مع العام 2013. الأغلب بعد هذه الانتخابات هو أن السلام أصبح أكثر بعدا من أي وقت مضى، فكيف سيتصرف العرب إزاء هذا التطور؟.