سعدت أن كنت في زيارة أبوظبي ـ الجميلة ـ الأسبوع الماضي، وسعدت أكثر بحضور الدورة العاشرة لجائزة البردة، وزادت سعادتي وأنا أراها متبوئة مكان الريادة والتميز على مستوى العالم الإسلامي في الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف، وتكريم الفائزين في المسابقات المختلفة في موضوع مدح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسيرته العطرة من خلال الشعر العربي والنبطي، ومن خلال الفنون الممثلة بالخط والزخرفة.
النجاح المستمر والمتعاظم لجائزة البردة من عام لآخر لم يكن ليكون لولا السياق الحضاري العام الذي عاشته وتعيشه دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة وفي كل المجالات؛ منذ أن وحدها صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ـ رحمه الله تعالى ـ والممتد أثره إلى خليفته بعده صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد، ومن حوله من حكام الإمارات.. جائزة البردة ذكرتني ببيت شهير من أجمل أبيات بردة الإمام البوصيري ـ رحمه الله ـ وهو قوله:
فإن فضل رسول الله ليس له حد
فيعرب عنه ناطق بفم
بلا شك، إن الإحاطة بأفضاله ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ مستحيلة، ومنها أحاديثه الشريفة، ومنها: عن سيدنا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، ومن أراد بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة".. الحديث أخرجه الأئمة الترمذي والحاكم والبيهقي، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب"، وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين"، ومن مفرداته نجد المنع التام لمادة التحزب والتشرذم.. بعد مدة من هذه الرواية يذكر لنا الإمام الطبري تحذيرا واضحا لسيدنا عمر مـن الأسـباب والـوسائـل المـؤديـة لذلك، فيقول لمجموعة من قريش: "بلغني أنكم تتخذون مجالس، لا يجلس اثنان معا، حتى يقال: من صحابة فلان، من جلساء فلان حتى تحوميت المجالس ـ أي صار لكل مجلس حميته وعصبيته ـ وأيـم الله إن هذا لسريع في دينكم، سـريع في شرفكم، سريع في ذات بينكم، ولكأني بمن يأتي بعدكم يقول: هذا رأي فلان، قد قسموا الإسلام أقساما.. أفيضوا مجالسكم بينكم؛ وتجالسوا معا، فإنه أدوم لألفتكم، وأهيب لكم في الناس.. اللهم ملـوني ومللتهم، وأحسست من نفسي وأحسوا مني، ولا أدري بأينا يكون الكون، وقد أعلم أن لهـم قبيلا منهم، فاقبـضني إليك"..
فطن الفاروق لسبب رئيس من أسباب تفرق الأمة، ألا وهو التحزب والتشرذم المؤدي إلى تعدد الولاءات، وخشي ـ رضي الله عنه ـ من تجمعات التفريق، ومن تكتلات التشتيت، وخشي من أن ينتـسب أهل كل مجلس إلى البارزين منهم، وأن يتعصبوا لهم، ويعجبوا بآرائهم، وتأخذهم حمـية الاجتـماع.
أنا لا أخصص، بل أعمم لأؤكد على خطورة التفرق، ومغبة نتائجه، وفساد منقلبه؛ فخندقة الناس وعسكرتهم آفة ومصيبة. وليس سرا أن أقول إن عالمنا يسوده الكثير من الاضطراب الذي قد يفتت وحدته؛ ولذا فإن الدعوة اليوم إلى التعاون ضد كل مفرق ومشتت ومتربص وخائن تعد من آكد المهمات، وأوجب الواجبات.. علينا أن نتحمل مسؤوليتنا تجاه أوطاننا، وعلينا حماية مجتمعاتنا من المتشددين والإقصائيين والأحاديين، ومن يضع يده سرا مع الشيطان وأعوانه.. قال تعالى "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم".. اللهم لا تقطع عن أمة حبيبك ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمنك وأمانك.